خطبة بعنوان : الايجابية
للشيخ/ محمد حســـن داود
لتحميل الخطبة : word اضغط هنا
لتحميل الخطية : pdf اضغط هنا
العناصــــــــر:
1 - مفهوم الايجابية وفضلها ودعوة الإسلام إليها
2 - الايجابية في حياة النبي والصحابة والصالحين
3 - من صور المشاركات الايجابية
4 - دعوة إلى الايجابية ونبذ السلبية
1 - مفهوم الايجابية وفضلها ودعوة الإسلام إليها
2 - الايجابية في حياة النبي والصحابة والصالحين
3 - من صور المشاركات الايجابية
4 - دعوة إلى الايجابية ونبذ السلبية
الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه
العزيز(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) المائدة2)وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل
في حديثه الشريف" أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ
" رواه الطبراني) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين، وبعد
لقد جاء الإسلام داعيا إلى أحسن الخلق وأجمل الصفات، وأنبل القيم وأفضل
السمات، ناهيا عن كل ما هو مذموم من الطباع والعادات، ومن الأخلاق الحميدة والقيم النبيلة
التي دعا إليها الإسلام " الايجابية " و تعنى شعور الإنسان بمسئوليته تجاه
دينه ووطنه، والإسهام في بنائه واستقراره وتقدمه بالعمل والإنتاج، فلا شك أن كل عاقل
يدرك أن من اجل أبواب رقى المجتمعات ودعائم تشييد الأمجاد والحضارات هو إعلاء قيمة
الايجابية فحقوق الوطن في الحفاظ عليه وأمنه واستقراره والدفاع عنه، ليست كلمات ترددها
الألسنة ،أو عواطف وأحاسيس وفقط ،بل أفعال وواجبات علينا جميعا أن نقوم بها ،وأن نسعى
من اجل تحقيقها، ومن ثم فان الايجابية مطلب منشود في جميع الشرائع السماوية بل والقيم
الإنسانية، وهى من اجل صفات الأنبياء؛ فقد قال الله جل وعلا فيهم (إِنَّهُمْ كَانُوا
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) الأنبياء90) ولا أدل على ذلك من قول السيدة خديجة
رضي الله تعالى عنها تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حينما جاءها من غار
حراء يرجف فؤاده بعد أن رأى جبريل عليه السلام فقالت له " كَلَّا وَاللَّهِ مَا
يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ؛ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ؛ وَتَكْسِبُ
الْمَعْدُومَ؛ وَتَقْرِي الضَّيْفَ؛ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" فهي
باب عظيم لنشر الود والمحبة والألفة والتماسك بين أبناء المجتمع، غير أن الايجابية
علامة بارزة على صفاء معدن صاحبها ونخوته وعاطفته فهي ترجمان لصورة مجتمع حضاري متقدم
يشعر كل فرد فيه بالآخرين، ويرى قمة سعادته فيما يسمو بهم ويرتقى ، فيحب لهم ما يحب
لنفسه من الخير، وهذا من ركائز الإيمان بالله، فَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"
يحكي أن كسرى خرج يوماً يتصيد فوجد شيخاً كبيراً يغرس شجر الزيتون فوقف عليه وقال له:
"يا هذا أنت شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة فلم تغرسه؟" فقال:
"أيها الملك زرع لنا من قبلنا فأكلنا فنحن نزرع لمن بعدنا فيأكل".
ولقد تواترت الآيات تدعو إلى الايجابية وتحفز
عليها ومن ذلك قوله تعالى(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا
عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
المائدة ٢) وقوله تعالى (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)
البقرة ١٥٨)، كما أن السنة النبوية المطهرة زاخرة بدعوات وحث على الايجابية؛ منها ما
جاء عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضي اللهُ عنه قال: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
" كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ:
تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعين الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ
عليها أو تَرْفَعُ لهُ متَاَعَهُ صَدَقَةٌ، والْكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صَدَقَةٌ، وبكُلِّ
خَطْوَةٍ تَمشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُمِيطُ الأَذَى عنِ الطَّرِيِق صَدَقَةٌ
"رواه البخاريُّ ومسلم) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا
؟ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا ، قَالَ : فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ
الْيَوْمَ جَنَازَةً ؟ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا ، قَالَ
: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا ؟ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : أَنَا ، قَالَ : فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا ؟ ، قَالَ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " رواه مسلم)
و عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ
؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ
لِلنَّاسِ ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ
، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ
دَيْنًا ، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا ، رواه الطبراني)
ولما جاء رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، أمره النبي صلى الله عليه وسلم
أن يتخلص من شباك الكسل، وان ينفض عنه غبار البطالة، وان يدخل باب الايجابية بالعمل
والجد والكسب،عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ : أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ
؟ قَالَ : بَلَى ، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ
فِيهِ مِنَ الْمَاءِ ( الحلس بساط والقعب إناء ) قَالَ : ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ فَأَتَاهُ
بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ
وَقَالَ : مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ ؟ قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ قَالَ
: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا
بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ
وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ
قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ
وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ
فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا
طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ
لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" رواه الترمذي) .
والمتدبر في القران الكريم يرى أروع الأمثلة في الايجابية؛ فهذا نبي الله
ذكريا عليه السلام، يشير القران الكريم إلى ايجابيته في كفالة مريم بنت عمران، قال
تعالى﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ
وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ آل عمران
٣٧) وهذا نبي الله موسى عليه السلام يساعد المحتاجين: إذ يشير القرآن الكريم إلى صور
عدة من ايجابيته؛ ومن ذلك تطوعه بمساعدة لامرأتين كانتا تستسقيان لرعي أغنامهما، وكان
الشبان يقفون أمام منبع الماء، وهما تنتظران من بعيد، فلما رآهما موسى وهو قادم من
سفره نحو " مَدْيَن " لم يرض بذلك، فتطوع بمهمة السقي لهما، قال تعالى ﴿وَلَمَّا
وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ
دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى
يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى
الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ القصص
٢٣/٢٤) ومنه أيضا ما كان من ذي القرنين لما ورد على القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً،
لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس، اشتكوا إليه من ظلم يأجوج ومأجوج ،وإغارتهم عليهم
وإفسادهم أموالهم و زروعهم ومواشيهم فكان نعم الداعي إلى الايجابية ونعم المشارك ؛قال
تعالى (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ
أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا
سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا
لَهُ نَقْبًا ) الكهف 93-97) ومنه أيضا ما جاء عن مؤمن آل فرعون الذي جهر بالحق دفاعا
عن نبي الله موسى، قال تعالى (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ
إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ
مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم
بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)غافر28)
ويظهر لنا القران نموذجا آخر للايجابية وهو هذه النملة التي حذرت قومها أن يصيبهم أذى
من جنود سليمان عليه السلام وهم لا يشعرون؛ قال تعالى (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ
وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ
لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)النمل 17) وهذا
ما كان من هدهد سليمان عليه السلام في الايجابية، ذاك الطائر الصغير في حجمه الكبير
في همته ، العظيم في تفكيره، وذلك حين انفرد بعمل إيجابي أدخل أمة كاملة في الإسلام،
إذ قام بعمل إعلامي عظيم في نقل خبر ملكة سبأ؛ قال تعالى (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ
مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً
شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَمَكَثَ
غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ
يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا
عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا
يَهْتَدُونَ) النمل 20-24)
ولقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم مثالا رائعا للايجابية في أسمي
وأرقي معانيها؛ ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم ،عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ امْرَأَةً كَانَ
فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً ،
فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ
حَاجَتَكِ " وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ
وَرَاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ
قَامَ مُسْرِعَاً، فَتَخَطى رِقَابَ النَّاس إلى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، ففزِعَ النَّاسُ
مِنْ سُرْعَتِهِ، فخَرَجَ عَلَيْهِمْ فرأى أنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ:
" ذَكَرْتُ شَيْئَاً مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أنْ يَحْبِسَنِي فأمَرْتُ
بِقِسْمَتِهِ " رواه البخاري) ومما روى عنه صلى الله عليه وسلم في حب الوطن والدفاع
عنه والحفاظ عليه ؛ ما جاء عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ ، وَلَقَدْ
فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ
، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ
إِلَى الصَّوْتِ ، وَهُوَ يَقُولُ : لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ
لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ ، فَقَالَ : لَقَدْ
وَجَدْتُهُ بَحْرًا . أَوْ : إِنَّهُ لَبَحْرٌ "
والناظر في التاريخ والسير يرى كيف كانت قيمة الايجابية في أخلاق وقيم
الرعيل الأول من الصحابة فعن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله
-صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي،
فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ
مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟"
قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ:
أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.
وهذا لا يعنى أن عمر رضي الله عنه لم يكن قوى الهمة سباقا إلى الخير، كلا بل كان للتنافس
في الأعمال التطوعية أهلا وللايجابية عنوانا ولعلو الهمة دليلا، و انظر فعل سيدنا عثمان
رضي الله عنه فعن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون
حتى يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة
براً وطعاماً، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة
قد خالف بين طرفيهما على عاتقه فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك
ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا.
فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟
قالوا العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني.
قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني
بكل درهم عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء
المدينة قال عبد الله بن عباس: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم في
منامي وهو على برذون أشهب يستعجل؛ وعليه حلة من نور؛ وبيده قضيب من نور؛ وعليه نعلان
شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك، فقال صلى
الله عليه وسلم: إني مبادر لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه
وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان.”( الرياض النضرة في مناقب العشرة
للمحب الطبري)
ولم تكن الايجابية عبر العصور والأزمان مقصورة على الرجال فلقد ضربت المرأة
أمثلة شتى للبشرية في الايجابية بما لها من دور حيوي وفعال في بناء المجتمع، فلقد برزت
المرأة في مجالات عديدة بحاجة إلى قوة وشجاعة وبأس، ولقد سطر التاريخ صورا مضيئة لكثير
من إسهامات المرأة في بناء المجتمع فـ "النساء شقائق الرجال" كما قال نبينا
صلى الله عليه وسلم، فهاهي السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تمتاز بعلمها الغزير الواسع
في مختلف نواحي العلوم كالحديث، والطب، والشعر، والفقه والفرائض ؛ وها هي السيدة أسماء
بنت أبي بكر في رحلة الهجرة تمد المهاجرين بالمعونة، إذ تجلب الطعام للرسول صلى الله
عليه وسلم وبصحبته أبيها رضوان الله عليه، وهذه فاطمة السمرقندية وهى ابنة محمد بن
احمد السمرقندي كانت فقيهة عالمة وكان أبوها لا تأتيه الفتوى إلا ويعرضها عليها ويسمع
رأيها فكانت الفتوى تخرج بتوقيعين توقيعه و توقيع ابنته، هذا وغيره الكثير والكثير
من إسهامات المرأة عبر العصور في خدمة المجتمع .
وللايجابية والمشاركة الفاعلة صورا عديدة ومظاهر لا تحصى ولا تعد فمنها
على سبيل المثال لا الحصر :
العلم :إذ أن نهضة الأمة تتحقق من ارتقاء كل فرد فيها بعلمه وخلقه، ومن
هنا كان حث الإسلام على المشاركة الايجابية في تعلم كل العلوم على اختلاف التخصصات،
وانظر زيد بن ثابت رضي الله عنه إذ يضرب لنا مثلا رائعا في المشاركة الايجابية بالعلم
عندما أمره صلى الله عليه وسلم بتعلم اللغة السريانية ليتولى أعمال ترجمة الرسائل للنبي
صلى الله عليه وسلم والرد عليها .
العمل : إذ أن الأمم لن تزدهر ولن ترقى ولن تتقدم إلا باستثمار طاقة أبنائها
كل حسب قدراته ومواهبه، ومن ثم فان استثمار الطاقات والمواهب واجب وطني كما انه واجب
شرعي ولقد حث الإسلام على العمل والمشاركة الايجابية به ولم يقيد ذلك بزمان، فعَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ
وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا
فَلْيَغْرِسْهَا" كما أن إتقان العمل من أبواب المشاركة الايجابية ولقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ
عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ " .
الصلح بين المتخاصمين فقد قال صلى الله عليه وسلم : "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ
بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟" قالوا: بلى
يا رسول الله. قال: "إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْـحَالِقَةُ"
دفع الأذى عن طريق الناس فعن أَبى بَرْزَةَ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا نَبِيَّ
اللَّهِ ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ ، قَال " اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ
طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ " رواه مسلم)
التكافل والتراحم فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى
اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ " رواه الطبراني)
وإذ نحن مقبلون على استحقاق وطني يعد في عاصرنا الحاضر من أهم مقومات
بناء الدولة فإننا نؤكد أن المشاركة الايجابية والإدلاء بالصوت هو مطلب وواجب وطني
وخاصة في ظل التحديات والمخاطر التي نواجهها؛ فان من إجادة الانتماء للوطن ،وحسن الولاء
له، و إخلاص الوفاء له : المشاركة الايجابية في تقدمه ورفعته، والعمل على رقيه والمساهمة
في النهوض به فلا يتصور أن تجد إنسانا وفيا لوطنه مخلصا له محبا له يتقاعس عن واجبه
تجاه وطنه .
إن من مؤشرات مقياس الخيرية في الناس، ومن أبواب الحسنات والرفعة في
الدرجات، المشاركة الايجابية والمساهمة في رفعة المجتمع، قال تعالى ( وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )الحج77) أما السلبية فهي آفة إن أصابت مجتمع أوهنته
وان أصابت أسرة أضعفتها وان أصابت فردا أقعدته وأوهنت عزيمته وقوته فمن الحقائق المسلم
بها أن رقى المجتمعات وتقدمها وحضارتها لا تقوم إلا على الايجابية .
(نسأل الله أن يحفظ مصر وجيشها وشعبها، وان
يهدنا لأحسن الأخلاق )
===== كتبه =====
محمد حســن داود
إمام وخطيب ومدرس