خطبة
بعنــــوان:
الصوم وأثره في تربية النفس
للشيخ/ محمد حســـن داود
( 9 رمضان 1444هـ - 31 مارس 2023م)
العناصـــــر: مقدمة.
-
الصيام عبادة وثيقة الصلة بالقلب والجوارح.
- أثر الصيام في تربية النفس.
- فاز من اغتنم رمضان بصالح الأعمال.
الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة183)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، وبعد
فإن الصيام
عبادة وثيقة الصلة بالقلب والجوارح؛ فهو مدرسة عظيمة، لها أثر عظيم في تربية
النفوس بكل مكوناتها ومقوماتها الروحية والخلقية والاجتماعية، تقوي الوازع الديني والجوانب
الإيمانية في قلب المسلم، وتكسبه القيم النبيلة السامية؛ ومن ذلك:
- تحقيق أسمى معاني الإخلاص لله: فالصيام يحرّك الإخلاص لله في نفس العبد،
وينمّي في قلبه حُسن القصد، ويحقق التجرّد له سبحانه، حيث يكون المؤمن حال صومه في
أسمى معاني الإخلاص، وأرفع درجات الصِّفاء والقرب من الله، بعيدا عن الرياء، ومن
ذلك يقول الإمام أحمد: "الصوم لا رياء فيه"، ولما كان الصوم كله خالصاً لله
(عز وجل)، بعيدا كل البعد عن الرياء؛ نسبه الله تعالى إلى نفسه وتكفل بالجزاء علية،
ففي الحديث القدسي: " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا
الصِّيَامَ هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" (رواه البخاري).
- وفي الصيام تحقيق أسمى معاني التقوي،
كما بيّن الله (سبحانه وتعالى) فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
(البقرة183) فالصوم سبب عظيم موصِّل إلى التقوى؛ لما فيه من القيام بالفريضة، كما فيه إمساك النفس عن الحرام وكسر شهواتها،
وامتثال أمر الله واجتناب نهيه، وفي هذا كله وقاية من غضب الله وعذابه، وقد قال النبي
(صلى الله عليه وسلم): "قَالَ رَبُّنَا (عَزَّ وَجَلَّ): الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ
بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ" (رواه أحمد)
إن الصوم الحقيقي هو الذي يقترن بالآداب
والفضائل ويجانب كل الرذائل، وتلك هي حقيقة التقوى التي هي: اجتناب ما يسخط الله، والإقبال
على ما يرضى الله (عز وجل) وفي ذلك يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):" الصيامُ
جنةٌ منَ النارِ، فمنْ أصبحَ صائمًا فلا يجهلْ يومئذٍ، و إنْ امرؤٌ جَهِلَ عليهِ فلا
يشتُمْهُ، ولا يسبَّهُ، وليقلْ إني صائمٌ".
وما أعظم أن يصل الإنسان إلى درجة التقوى،
فما أحسنها من درجة، هي خير لباس، وخير زاد، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ
خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (الأعراف26)، وقال سبحانه:
(وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ
) (البقرة197) ما صاحبت عملا إلا كان مقبولا، قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ
مِنَ الْمُتَّقِينَ)(المائدة27)، وما تمسك بها معسر إلا يسر الله له، ولا اتصف بها
مكروب إلا فرج الله عنه، قال تعالى (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)
(الطلاق2) وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (الطلاق
4)، وما تمسك بها عبد إلا فاز في الدارين، قال تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)
(الزمر73) .
- الحرص على الاستجابة لأوامر الشرع: وهذا
حاصل في الصيام، فتأمل كيف يقوى الإيمان في قلب العبد حين يترك طعامه وشرابه
وشهوته، كما جاء في الحديث القدسي: "يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن
أَجْلِي" ويمتثل أمر الله (سبحانه وتعالى) في قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل) (البقرة 187).
ولقد
علمتم فضل الاستجابة وعظيم أثرها فقد قال الله سبحانه: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا
بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة 186) وقال سبحانه: (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) (الرعد18).
- التحلي
بالصبر: وهو ضروري
لأداء العبادات، واجتناب المنكرات، وضروري عند نزول المصائب والنكبات، وحال المسلم
كله صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الأقدار، وصفة من هذا القبيل تتطلب
من كل مسلم أن يربي النفس عليها وأن يحرص كل الحرص على اكتسابها، وشهر رمضان فرصة
كبيرة لتحقيق هذا الغرض، لأنه يتمثل فيه صبر الطاعة، ومنه: الصيام، وصبر على
المعصية، ومنه: ترك المفطرات والشهوات، وصبر على الأقدار،
ومنه: ما يحصل للصائم من ألم الجوع والعطش، وضعف النفس والبدن، ولهذا سماه النبي
(صلى الله عليه وسلم) شهر الصبر، فقال" صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلاثَةِ
أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ"(رواه البزار)
والمتدبر في
الصيام والصبر يرى أنهما قد اشتركا معا في الأجر والثواب المفتوح دون تقييد، ففي
القرآن الكريم عن الصبر: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ
حِسَابٍ) (الزمر10)، وفي الحديث القدسي عن الصيام: " كُلُّ عَمَلِ
ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ هُوَ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ".
- دفع النفوس إلى شكر النعم، فمن الجوانب الإيمانية العظيمة للصيام
أنه يُذكِّر النفوس بنعم الله (تبارك وتعالى)، فالنفس إذا تكاثرت عليها النِّعَم
ألِفَتها وربما تجاهلت قيمتها ومكانتها، ثم حين تفتقدها، تتذكر كم هي عظيمة تلك
النعم!!
فجاء الصوم كالموعظة العملية، حيث يمتنع
العباد عن بعضَ النعم في أوقات محدودة، ثم إذا هي قد ابيحت لهم مرة ثانية، ومتى
تكرر هذا الحرمان أيامًا متتالية كل عام تركز الشكر في النفوس ودام، فلزموه على كل
حال، فأصبحوا في جانب من جوانب الشكر لله (سبحانه وتعالى)، ولقد قال الله في آيات
الصيام: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة 185).
والشكر
والصبر هما حال المؤمن، واجتماعهما في الصيام يشعر العبد أنه يعيش الإيمان بحاليه،
فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ
كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ
سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ
خيْراً لَهُ" (رواه مسلم).
- مراقبة الله في السر والعلن؛ فالصائم بوسعه أن يدعي الصيام أمام الناس ثم
هو يأكل ويشرب في الخفاء، لكن المانع من ذلك هو مراقبة الله (سبحانه وتعالى)، فهو
على يقين، أن الله تعالى مطلع على سره وعلانيته، على يقين أنه إذا تخفى عن أعين
الناس فلن يخفى أمره على الله، والله (جل وعلا) يقول: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء1) ويقول سبحانه: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الملك13-14)
إن مراقبة الله (عز وجل) درجة عظيمة؛ بها يسمو العبد، وترقى النفس، ويصفو
القلب، ويستيقظ الضمير، وينال العبد الحسنات والرفعة في الدرجات ومغفرة الذنوب
والسيئات، فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (الملك12) وهى طريق الجنة وسبيلها قال تعالى:
(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات40/41)، وقال سبحانه: ( وَلِمَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن 46).
وإذا خـلـوت بـريبــة فـي ظلمـــة *** والـنفـس داعـية إلى الـطغيـان
فاستحي من نظـر الإلـه وقل لها *** إن الـذي خـلق الـظـلام يـراني
- نزع البخل من القلب، وزرع المودة والمحبة
والالفة والتكافل: إذ تأتي فريضة الصيام فتعلم النفوس كيف تتغلب على خصلة البخل، والتحلي
بالكرم والجود والإنفاق، فتعلمها كيف تكون رعاية الفقير وإجابة السائل وتفريج كرب المكروب،
حين تشعر النفوس بالجوع والعطش، ولقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) أكرم الناس وأجود
الناس، وخاصة في هذا الشهر المبارك، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال "كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ
فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ
رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أَجْوَدُ
بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"
فحري بنا تحقيق هذه القيمة العظيمة، قال
الشافعي (رحمه اللّه): "أحبُّ للرّجل الزّيادة بالجود في رمضان، اقتداءً برسول
اللّه (صلّى اللّه عليه وسلّم)، ولحاجة النّاس فيه إلى مصالحهم"، وقد قال النبي
(صلى الله عليه وسلم) "مَنْ فَطَّرَ صَائِماً كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ إِلاَّ
أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ" (رواه الترمذي)
كما أن
الصيام يربي النفوس على الاكثار من الأعمال الصالحة: فقد فاز وربح من اغتنمه بالعبادات
والطاعات، فعَن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ،(رضي الله عنه)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "احْضَرُوا
الْمِنْبَرَ" فَحَضَرْنَا فَلَمَّا ارْتَقَى دَرَجَةً قَالَ:
"آمِينَ"، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّانِيَةَ قَالَ: "آمِينَ"
فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ قَالَ: "آمِينَ"، فَلَمَّا
نَزَلَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ الْيَوْمَ شَيْئًا
مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَالَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ): عَرَضَ لِي فَقَالَ: بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ
يَغْفَرْ لَهُ قُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّانِيَةَ قَالَ: بُعْدًا
لِمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ قُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا
رَقِيتُ الثَّالِثَةَ قَالَ: بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ
عِنْدَهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ قُلْتُ: آمِينَ "
(رواه الحاكم في المستدرك).
اللهم اهدنا لأحسن
الأخلاق، لا واصرف عنِّا سيِّئها،
وأكتبنا اللهم من عتقاء هذا الشهر من النار
واحفظ مصر من كل مكروه وسوء
=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ---- اضغط هنا