خطبة بعنـــــــوان:
شرف الدفاع عن الأوطان
للدكتور/
محمد حســــن داود
(11 ربيع الآخر 1447هـ - 3 أكتوبر2025م)
العناصـــــر :
- حب الوطن من الإيمان.
- مصر أرض الأنبياء والعلماء ومهد الحضارة.
- الدفاع عن الأوطان واجب شرعي ووطني.
- الدفاع عن الأوطان في حياة النبي (صَلى الله عليه وسلم).
- فضل وشرف الدفاع عن الأوطان.
- نصر أكتوبر المجيد فخر لنا وتاج على رؤوسنا.
- دعوة إلى تحقيق كل معاني حب الوطن والوفاء له والدفاع عنه.
الموضــــــوع: الحمد
لله رب العالمين، الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في
الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من
خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فإن من أعظم النعم وأجلها أن يكون
للإنسان وطن يعيش تحت ظلاله ويتنفس هواءه، يجد فيه معنى السكينة وحقيقة الطمأنينة،
يفرح ويفتخر بتاريخه
وحضاراته وانتصاراته، فيه تتصل أمجاد الأجداد بالأحفاد، وتتلاحم قلوب الأهل والأحباب؛
فالوطن نعمة جليلة ومنة عظيمة؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها فلينظر في
كتاب الله (عز وجل)، فقد ساوى بين خروج الجسد من الوطن وخروج الروح من الجسد، قال
تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ
اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ
أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ
تَثْبِيتاً) (النساء:66)، قال الإمام الرازي (رحمه الله) في (مفاتيح الغيب):
"جعل مفارقة الأوطان معادلةً لقتل النفس"، وقال الحافظ ابن حجر (رحمه
الله)، في (الفتح): "وقد قُرنت مفارقة الوطن بالقتل".
من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو
مكانتها، فليتدبر جيدا قول رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): «مَنْ أَصْبَحَ
مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ،
فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها» (رواه البخاري في الأدب المفرد).
من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو
مكانتها فلينظر إلى حال من فقدها، وليتدبر قيمتها في ميزان من حرمها؛ فهي مهد
الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء
والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، فكم زلزلت بحب الأوطان مكامن وجدان، وأطلق حبها
قرائح شعراء، وسكبت في حبها محابر أدباء، وضحى من أجلها بالغالي والنفيس الأوفياء، فحب الوطن من الإيمان.
ولقد كان الحبيب النبي (صلى الله عليه
وسلمَ) يعيش هذا الحب والانتماء الوطني بكل وجدانه وجوارحه؛ فقد جاء في الصحيحين
عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): أن النبي (صلى الله عليه وسلمَ) كان يقول
في الرقية: «باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا
بإذن ربنا». وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، أنه قَالَ: "
كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلمَ) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ
دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ - أَيْ أَسْرَعَ بِهَا - وَإِنْ كَانَتْ
دَابَّةً حَرَّكَهَا". ولما هاجر وأصحابه إلى المدينة رأي مدى حبهم لوطنهم
مكة ومدى شوقهم إليها، فكان يسأل الله كثيرا أن يرزقه هو وأصحابه حبَّ المدينة
حبًّا يفوق حبَّهم لمكة، فكان يقول: «اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ
كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ» (رواه البخاري).
كما كان صلى الله عَليه وسلم يكثر
الدعاء لوطنه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ
النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: «اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ
لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي
مُدِّنَا، اللهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ،
وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ
لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ» (رواه مسلم).
كذلك أُثر أن العرب كانت إذا غزتْ أو سافرتْ
حملتْ معها من تُربة بلدها رملاً وعفرا تستنشقه عند نزْلةٍ أو زكام أو صُداع"(الرسائل
للجاحظ). ولقد قيل لأعرابي: كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل
شيء ظله؟ قال: "يمشي أحدنا ميلا، فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها
كساه، ويجلس في فيه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى".
إنه حب خالص للأوطان، حب صادق، حب نابع
من قلوب الرجال الأوفياء، كما قال الأصمعي: "إذا أرَدتَ أن تَعرِفَ وفاءَ
الرَّجُلِ ووفاءَ عَهدِه، فانظُرْ إلى حَنينِه إلى أوطانِه"، فللمولى (سبحانه وتعالى) الحمد على
نعمة الوطن، هذه النعمة التي لا تقدر بالأموال، ولا تساوم بالأرواح، بل تبذل
الأموال لأجلها، وترخص الأرواح في سبيل حمايتها والدفاع عنها.
فإن من أعظم نعم الله (عز وجل) علينا أن
وطننا هو مصر الحبيبة الغالية؛ أم البلاد، وموطن الصالحين والعباد، بلد الأنبياء
والعلماء؛ فقد تولى أمرها إدريس ويوسف، وولد فيها موسى وهارون، وهاجر إليها
إبراهيم ولوط، وسكنها يعقوب، وسار إليها عيسى ومريم، ومرَّ عليها محمد، (صلوات
الله وتسليماته عليهم أجمعين)، كما فيها مراقد الصحابة والأولياء وآل بيت النبي
عليه الصلاة والسلام.
من شاهد الأرض وأقطارهـا ***
والنــــاس أنواعًـا وأجناسا
ولا رأى مصــر ولا أهلهـــا *** فمـا رأى الدنيـا ولا الناســا
ذكرت في القرآن الكريم في أكثر من
ثلاثين موضعا، منها ما هو بصريح اللفظ ومنها ما هو كناية؛ ذكرت بالأمن والأمان،
قال تعالى: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ
ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) (يوسف: 99)، ذكرت بالتفضيل قال
تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا
بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس: 87).
فيها كلم الله موسى (عليه السلام) قال
تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) وتجلى سبحانه
وتعالى على أرضها؛ قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ
رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ
انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا
تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا
أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)
(الأعراف: 143). وعلى أرضها ضرب موسى (عليه السلام) البحر بعصاه فظهرت معجزة عظيمة
وحادثة فريدة في تاريخ البشرية؛ قال تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ
اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ ) (الشعراء: 63).
مر النبي صلى الله عليه وسلمَ بها،
وصلى بطور سيناء على أرضها، ومدح جندها، وأوصى الصحابة (رضي الله عنهم) بأهلها،
ولحب أهل مصر لآل بيت سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ) فازوا ببركة
دعائهم؛ فعن أبي ذر (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ): «إِنَّكُمْ
سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا
فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا"
أَوْ قَالَ: «ذِمَّةً وَصِهْرًا»، وعن عُمَر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه سمع
رسول الله (صَلى الله عليه وسلم)، يقول: «إِذَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِصْرَ،
فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ
الْأَرْضِ»، فقال أبو بكر الصِّدِّيقُ (رضي الله
عنه): ولِمَ يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ فِي رِبَاطٍ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، وكان من دعاء سيدتنا السيدة زينب (رضي الله عنها): "يا
أهل مصر نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله وأعنتمونا أعانكم الله وجعل
لكم من كل مصيبة فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا ".
إن حقوق الأوطان كثيرة، وإن لحبها
والوفاء لها صورا متعددة، وأعظم هذه الحقوق وأعلاها: الدفاع عنها؛ فلا شك أن
الدفاع عنها شرف عظيم، الدفاع عنها واجب شرعي وواجب وطني، فإن في أمانها
واستقرارها إقامة لمعاني الحياة بكل جوانبها، من عبادة وعلم وعمل وتقدم وازدهار
وغير ذلك؛ لذلك كان طلب الأمن في البلاد هو أول ما دعا به الخليل إبراهيم (عليه
السلام)، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ
آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم: 35)، وقال
سبحانه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)
(البقرة: 126) فلقد قدم سيدنا إبراهيم (عليه السلام) الأمن في الطلب على العبادة والرزق؛
لأن الأمن والأمان يحمل كل معاني الحياة، ووجود الأمن من أعظم أسباب وجود الرزق، ولا
تؤدى عبادة على الوجه الأكمل، ولا يطيب للإنسان رزق في عدم وجود الأمن، ومن دليل
ذلك أن الله (عز وجل) قدم الخوف في الابتلاء على نقص الطعام، فقال تعالى:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) (البقرة 155).
ومن ينظر حال النبي (صلى الله عليه
وسلمَ) يجد أعظم الأمثلة في الدفاع عن الوطن والأرض والعرض؛ فعن سيدنا أنس (رضي
الله عنه) أنه قال: كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَحْسَنَ
النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ
المَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ،
فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ سَبَقَ
النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا»"
وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، فِي عُنُقِهِ
سَيْفٌ، فَقَالَ: « لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا. أَوْ: إِنَّهُ لَبَحْرٌ ».
والمتدبر في سيرة النبي (صَلى الله
عليه وسلم)، يجد أن جميع الغزوات كانت تحمل أسمى المعاني في حماية الوطن والأرض
والعرض والدفاع عنه وعن استقراره وأمنه وأمانه، كانت لرد عدوان أعدائه وإبطال
حيلهم ومكرهم؛ إذن فالذي يدافع عن وطنه وعرضه وأرضه ويحافظ عليه يسير على خطى
سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ) وأصحابه الكرام (رضي الله عنهم).
ففضل الدفاع عن الوطن والعرض عظيم؛ ولقد
أخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلمَ) أن العين التي ما نامت، والأقدام التي اغبرت
في حراسة الوطن والعرض، محرمة على النار، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ) يقول: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ:
عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ» (رواه الترمذي)، ويقول: (صلى الله عليه وسلمَ): «مَنِ اغْبَرَّتْ
قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» (رواه البخاري)،
وإن رباط يوم في سبيل الله أجره عظيم، حيث قال صلى الله عليه وسلمَ: «مَوقِفُ
ساعةٍ في سَبيلِ اللهِ خَيرٌ من قِيامِ لَيلَةِ القَدْرِ عند الحَجَرِ الأسْوَدِ»،
وقال: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا
عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا
وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ
الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» (رواه البخاري)، وفي (صحيح
مسلم): «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ،
وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ». كما بشر الحبيب النبي (صلى الله عليهِ
وسلم) من قتل دفاعا عن أرضه وعرضه ووطنه بالفضل الكبير، فقال: «مَنْ قُتِلَ دُونَ
مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ
قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"
(رواه الترمذي)، ويقول: «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»
(مسلم).
إن في التاريخ أياما خالدة لا تنسى،
وعلى رأسها يوم السادس من أكتوبر عام ألف وتسعمائة ثلاث وسبعين، فمهما مرت الأيام وتعاقبت
السنين سيظل نصر أكتوبر المجيد فخرا لنا، تاجا على رؤوسنا، وساما على صدورنا، حيث كان
توفيق الله (سبحانه وتعالى) لأبطال قواتنا المسلحة فحققوا نصرا عظيما، وتوجوا
البلاد والعباد بتاج النصر، وحطموا آمال المعتدي، وأثبتوا للعالم كله أنه لا تهاون
مع معتدي مهما كان اسمه أو رسمه.
وإننا مهما مرت الأيام وتعاقبت السنين لن
تنسى أبدآ قلوبنا من المحبة وألسنتا مع قلوبنا من الدعاء شهداء أكتوبر المجيد، من قدموا
أرواحهم من أجل حرية البلاد، من رووا بدمائهم أرض الوطن دفاعا عن الأرض والعرض، ورغبة
في عزة البلاد، و كرامة العباد، ولا شك أن من أقل حقوقهم علينا جميعا تخليد أسماءهم،
وذكراهم، ليس في سجلات التاريخ فحسب، بل في كل قلب وعلى كل لسان، ليس من قبيل سرد
البطولات التي قاموا بها فحسب، بل أيضا من أجل أن يكونوا نموذجا للاقتداء بهم،
وحافزا للأجيال بعدهم على التضحية من أجل الوطن، ورفعته، وتقدمه، فقد اختاروا أرفعَ
المقامات، وأعظم الدرجات، وإن كان أغلى ما يملكه الإنسان روحه التي بين جنبيه، فقد
قدموها دفاعا عن الوطن، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ
وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ
بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111)، فما أعظم ما قدموا وما
أعظم ما ربحوا.
إن الواجب علينا ونحن في ذكرى نصر
أكتوبر المجيد أن نستلهم أساب النصر، فنحققها في كل جوانب حياتنا، وإن من أعظمها:
حب الوطن، وحسن الظن بالله، والإكثار من ذكره، والتوكل عليه، والأخذ بالأسباب،
والدعاء. يجب علينا أن نتحلى دائما بروح نصر أكتوبر في كل أوقاتنا فنكون في خدمة
وطننا الحبيب؛ فالمخلصين والشرفاء والعظماء الأوفياء يؤمنون بعظم حق الوطن،
وبضرورة تقديم كل ما بوسعهم، وبأقصى جهدهم، وبأعظم طاقاتهم في خدمة الوطن،
وحمايته، والدفاع عنه، والتضحية من أجله.
إن حب الوطن والوفاء له والدفاع عنه، ليس كلمات؛ بل إن ذلك مرتبط أيضا
بعمل الفرد وسلوكه، يلازمه في كل مكان، في حله وترحاله، في المنزل والشارع ومكان
العمل، فيظهر في إخلاص الوفاء له، يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، والمحافظة
على أمواله فحرمة المال العام أِشد من حرمة المال الخاص لكثرة الحقوق
المتعلقة به، والله (عز وجل) يقول: (وَمَن
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (آل عمران: 161). يظهر في القيام بالواجبات
والمسئوليّات على أكمل وجه، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): «إنَّ اللهَ (تعالى)
يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ». يظهر في العمل والانتاج، فالقوة
الاقتصادية ضرورية في تقدم الأوطان وهى عماد أول من أعمدة البناء وعامل أول من
عوامل القوة، ولن يقوى الاقتصاد إلا بالعمل والإنتاج. يظهر في الحرص على العلم النافع، فالعلماء هم
ورثة الأنبياء. يظهر في نشر الخير والقيم والأخلاق الفاضلة،
ونشر روح المحبة والأخوة بين أبنائه، وقد قال تعالى:
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2). يظهر في الوحدة
والتماسك والترابط، وقد قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا
وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103). يظهر في عدم ترويج الشائعات، وعدم السعي خلفها؛
فليكن منهج كل واحد منا عند الحديث قول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ): «وَمَنْ كَانَ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»، وليكن منهج
كل واحد منا في سمعه قول الله (عز وجل): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6). يظهر في
مناهضة الأفكار المتطرفة، ففي مناهضتها توجيه للعقول والقلوب إلى الوسطية والاعتدال
بعيدا عن التشدد والانغلاق والتطرف، وقد روي عنِ سيدنا عبد الله بنِ مَسْعودٍ (رَضْيَ
اللهُ عنه) أنَّ النَّبيَّ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) قال: «هَلَكَ
المُتنَطِّعونَ» قالها ثلاثًا
(رواه مسلم). يظهر في طاعة ولاة الأمر. يظهر في التنافس في خدمة الوطن كل حسب
طاقاته وقدراته والمحافظة على أمنه واستقراره. يظهر بأن يكون كل منا قدوة للأبناء
والأجيال في حب الوطن وخدمته والحفاظ عليه والدفاع عنه والوفاء له والتضحية في
سبيله؛ فالمسلم الحقيقي يكون وفياً أعظم ما يكون الوفاء لوطنه، محباً أشد ما يكون
الحب له، محافظا عليه، مدافعا عنه بالغالي والنفيس، قدوة للأبناء والأجيال.
اللهم احفظ مصر وقائدها
وجيشها وشعبها من كل مكروه وسوء
واجعلها اللهم أمنا أمانا سخاء رخاء يا رب
العالمين
=== كتبه ===
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومدرس
دكتوراة في الفقه المقارن
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ----- اضغط هنا