recent
آخر المشاركات

خطبة بعنـــــــوان: الرسول المعلم (صلّى الله عليه وسلّم) - للدكتور/ محمد حســــن داود (27 ربيع الأول 1447هـ - 19 سبتمبر2025م)

 

خطبة بعنـــــــوان:
الرسول المعلم (صلّى الله عليه وسلّم)
للدكتور/ محمد حســــن داود
(27 ربيع الأول 1447هـ - 19 سبتمبر2025م)



العناصـــــر :   

- مكانة العلم،  ومدى اهتمام  الإسلام بالعلم والتعلم.
- النبي (َصلى الله عليه وسلمَ) معلما.
- فضل العلم والعلماء .
- أثر العلم والتعلم على الفرد والمجتمع.

الموضوع: الحمد لله رب العالمين، رفع شأن العلم فأقسم بالقلم، وامتن على الإنسان فعلمه ما لم يكن يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، إمام العلماء، وسيّد المعلّمين، القائل في حديثه الشريف: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا" (رواه مسلم)، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فإن العلم من أعظم الضروريات، وأهم الحاجات التي عليها مدار حياة الأمم، وبه تنتظم شئونها، وتستقيم أحوالها، ويصلح أمرها، وإن شئت فقل: إن حاجة الأمم إلى العلم تفوق حاجتها إلى الطعام والشراب، والملبس والمسكن؛ فهو غذاء للروح، وصيانة للعقول، وبناء للحضارات، وما أعظم قول الإمام أحمد بن حنبل (رضي الله عنه): "الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ فالرجل يحتاج إلى الطعام والشراب مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه".

 ومن ثم فليس عجبا أن تكون أول آيات نزلت على حبيبنا النبي (صلى الله عليه وسلم) تدعوا إلى العلم، وتهتم بوسائله وأدواته، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1-4) كما سمى المولى (جل وعلا) سورة كاملة باسم القلم وهو من أدوات طلب العلم، واستهلها سبحانه بقوله: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم: 1) كما استهل سورة الرحمن بقوله تعالى: (الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن:1-4) في بيان لمكانة العلم ومدى الاهتمام به.  فالناظر في القرآن الكريم يرى مدى دعوته إلى العلم، إذ يقول الله (عز وجل): (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)، وقال عز وجل: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (يونس: 101). كما ذُكر لفظ " العلم " بمشتقاته في القرآن الكريم أكثر من سبعمائة وستين مرة، وفي ذلك إشارة إلى أهمية العلم ومكانته ودرجته.

إن من أهمية العلم ومكانته وفضله أن كان من تكريم الله لأنبيائه ورسله، فهذا خليل الرحمن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) يقول لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم: 43)، وهذا سيدنا يوسف الصديق (عليه السلام) يقول: (ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37) وهذان نبيا الله، داود وسليمان (عليهما السلام)، يقول عنهما ربنا (جل وعلا): (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 15). وفي بعثة الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول المولى (جل وعلا): (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2).

إنك إن تتأمل القرآن الكريم لن تجد أن الله (تعالى) أمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالاستزادة من شيء كما أمره بالاستزادة من العلم؛ قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طه: 114)، فلقد أرسله الله (عز وجلَ) معلما للبشرية، كما قال صلى الله عليه وسلمَ: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا" (رواه مسلم)، فكان نعم المعلم والمربي، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21).

ومن ينظر سيرته صلى اللهُ عليه وسلم يجد مدى اهتمامه بالعلم والتعليم، ففي غزوة بدر جعل فداء كل أسير من أسرى بدر ممن يحسنون القراءة والكتابة أن يعلم عشرة من أبناء الأنصار. كذلك من ينظر يجد مدى اهتمامه صلى الله عليه وسلمَ بتعليم الصحابة؛ فعن أبي رفاعة، قال: "انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهُوَ يَخْطُبُ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ رَجُلٌ غَرِيبٌ، جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ دِينِهِ، لَا يَدْرِي مَا دِينُهُ، قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَتَرَكَ خُطْبَتَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ، فَأُتِيَ بِكُرْسِيٍّ، حَسِبْتُ قَوَائِمَهُ حَدِيدًا، قَالَ: فَقَعَدَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ أَتَى خُطْبَتَهُ، فَأَتَمَّ آخِرَهَا" (رواه مسلم)، فكان لا يدع وقتا مناسبا للتعليم والتوجيه دون أن يغتنمه في ذلك.

ولقد تنوعت أساليب التعليم في المدرسة النبوية، ومن ذلك: الثناء على السائل وبيان مكانة السؤال؛ فلما سأله سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه): يَا نَبِيَّ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبْعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، تُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ" (رواه النسائي، في الكبرى)، ومنه بيان عظم الأجر والفضل؛  كقوله: " مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ ". ومنه: اهتمامه بالقدوة العملية والمبادأة بالخير؛ إذ كان صلى الله عليه وسلمَ يدعو أصحابه الى تقوى الله وهو أتقاهم، وينهاهم عن الشيء فيكون أشدّهم حذرا منه، وينصحهم بحسن العشرة مع الأهل، وهو خير الناس لأهله، وتراه يدعو إلى حسن الخلق، وهو أحسن الناس خلقا، وتراه يدعو إلى الصدقة والإنفاق والإطعام وإجابة السؤال وقضاء الحوائج، وهو أكرم الناس وأجود بالخير من الريح المرسلة، وتراه يدعو إلى قيام الليل، وقد قام الليل حتى تورمت قدماه، وتراه يدعو إلى الإكثار من التوبة، وهو أكثر الناس توبة إلى الله (عز وجل)، إذ يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ" (رواه مسلم).

فلم يقف الأمر في تعليم النبي (صَلى الله عليه وسلم) لأصحابه عند القول والبيان فحسب، بل كان يشمل الفعل أيضا، فلا ريب أن التعليم بالفعل والعمل أقوى وأوقع في النفس وأعون على الفهم، وأدعى إلى الاقتداء والتأسي من التعليم بالقول؛ ومن ذلك: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) دَخَلَ المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وسلم) فَرَدَّ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَلَيْهِ السَّلاَمَ، فَقَالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ" ثَلاَثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: "إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاَتِكَ كُلِّهَا" (رواه البخاري).

ومن يتأمل السنة النبوية يجد الرفق مصاحبا تعليم النبي (صَلى الله عليه وسلم)، يقول سيدنا معاوية بن الحكم السلمي (رضي الله عنه): "فَمَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَطُّ أَرْفَقَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (رواه أبو داود)، فهذا عمَر بْن أَبِي سَلَمَةَ، يقول: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ" فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ(رواه البخاري) ويقول معاوية بن الحكم السلمي (رضي الله عنه) بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ, فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ؛ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي، لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي؛ مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؛ فَوَاللَّهِ: مَا كَهَرَنِي، وَلَا ضَرَبَنِي، وَلَا شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ" (رواه مسلم).

يقول سيدنا الإمام الشافعي (رضي الله عنه): "إِنَّ الاِشْتِغالَ بِطَلَبِ العِلْمِ أَفْضَلُ ما تُنْفَقُ فِيهِ نَفائِسُ الأَوْقاتِ"، إذ إن للعلم منزلة عالية رفيعة، ويكفي على ذلك دليل أن من لا يحسنه يفرح به إذا نسب إليه، يقول سيدنا الإمام علي (رضي الله عنه): "كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهِ مَنْ لا يُحْسِنُهُ، وَيَفْرَحُ إِذَا نُسِبَ إِلَيْه، وَكَفَى بِالْجَهْلِ ذَمًّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ". فالعلم أغلي وأطيب ما يجمعه الإنسان؛ ولهذا قال سيدنا الإمام علي (رضي الله عنه): "العلم خيرٌ من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال" ويقول سيدنا معاذُ بنُ جبلٍ (رضي اللهُ عنهُ): "تعلمُوا العلمَ فإنَّ تعلمَهُ حسنةٌ، وطلبَهُ عبادةٌ، ومذاكرتَهُ تسبيحٌ والبحثَ عنهُ جهادٌ وبذلَهُ قربةٌ وتعليمَهُ من لا يعلمُهُ صدقةٌ".

كما أخبرنا سيدنا النبي (صلى الله عليه وسلمَ) أن العلم ميراث النبوة؛ ففي الحديث النبوي الشريف: "وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) أَنَّهُ مَرَّ بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، فَوَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: "يَا أَهْلَ السُّوقِ، مَا أَعْجَزَكُمْ، قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا: هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَا هُنَا لا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ؟ قَالُوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ. فَخَرَجُوا سِرَاعًا إِلَى الْمَسْجِدِ، وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا، فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا، فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟ قَالُوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَيْحَكُمْ، فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم" (رواه الطبراني في الأوسط).

- ولقد بين القرآن الكريم مكانة من سلكوا طريق العلم، وادخروا أوقاتهم في طلبه، فقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة: 11) وقال أيضا: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ) (الزمر: 9).

- كما ذكر الله (تعالى) العلماء، بعد ذاته العلية وملائكته في أعظم شهادة وأقدسها، قال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (آل عمران: 18).

- والعلماء هم من فازوا بالخيرية التي ذكرها سيدنا النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) في قوله: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ "(رواه البخاري).

- فمن سلك طريقا يبتغى فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة، كما قال رسولنا الحبيب (صلى اللهُ عليه وسلم)" مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ ".

- كما أن العلماء يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض؛ فقد قال رسول الله (صلى اللهُ عليه وسلم)" وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ".

- كما يبين لنا سيدنا الحبيب النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) مقام العالم من العابد فيقول: "وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ"، ومع كون هذه المقارنة عظيمة، إلا أن هناك مقارنة أعظم، ذكرها رسول الله (صلى اللهُ عليه وسلم) فَقَالَ: " فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ "، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ" (رواه الترمذي وقال حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ).

- كما أن الناظر في سنة سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلم) يجد أن أجر العلم لم يقف عند حياة العبد بل يمتد إلى ما بعد موته، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى اللهُ عليه وسلم) قَالَ: "إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (رواه مسلم).

مَا الْفَضْلُ إِلا لأَهْلِ الْعِلْـمِ إِنَّهُــمُ *** عَلَى الْهُدَى لِمَنْ اسْتَهْـدَى أَدِلاَّءُ
فَفُـزْ بِعِلْمٍ وَلا تَطْلُبْ بِـهِ بَـــــدَلاً *** فَالنَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَـاءُ

إن للعلم أثرا طيبا على الفرد والمجتمع؛ فبه تتفاضل الناس، كما تتفاضل به الأمم؛ فقد قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9)، ولله در من قال:

العلم يرفع بيوتا لا عماد لها *** والجهل يهدم بيوت العز والكرم

فطلب العلم والتفوق فيه من مقومات الحياة في المجتمع، فلا يمكن أن تبنى حضارة دون أن يكون أحد أركانها العلم؛ فبالعلم تتطور الأمم والمجتمعات وتنهض وتتقدم؛ وإن الناظر في تاريخ الأمم قديمها وحديثها، يلاحظ أن تحضرها ورقيها كان مرتبطا بالعلم ارتباطا وثيقا؛ فالعلم ابتكار وتطوير للصناعة والزراعة والصحة والطب والهندسة وغير ذلك من المجالات والتخصصات التي يحتاجها المجتمع، ومن ثم فليعلم كل منا أن طلب العلم لا يقف عند العلوم الشرعية فحسب، بل إن الأمم تحتاج إلى كل علم نافع في جميع المجالات التي فيها مصلحة البشرية، وتيسير أمور حياتها؛ كالطب والهندسة والكيمياء، والرياضيات، والميكانيكا، وعلوم الحاسوب والتكنولوجيا، والبناء، والملاحة ... الخ ؛ فحينما مدح الله (سبحانه وتعالي) داود وسليمان (عليهما السلام) في القرآن بالعلم، فقال تعالى: (لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل: 10) لم يقتصر هذا على الدين فحسب؛ بل كان منه صناعة الحديد ومنه منطق الطير، كما قال تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل16) كما أن قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر: 28) جاء في معرض الحديث عن العلوم الكونية، إذ يقول الله (سبحانه وتعالى): (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) ( فاطر: 27- 28) مما يدل على اهتمام الإسلام ودعوته إلى العلم النافع في جميع المجالات... فحرى بالآباء والأبناء الاهتمام بالعلم، والحرص على طلبه، فهو سبيل التقدم والرقى، ولله در القائل:

بالعلم والمال يبني الناس ملكهم *** لم يبن ملك على جهل وإقلال

نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا
وأن يحفظ مصر من كل مكروه وسوء

=== كتبه ===
محمد حســــــن داود
إمام وخطيب ومــدرس
دكتوراه في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      ----     اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   جوجل درايف    -----       اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  pdf    جوجل درايف      -----       اضغط هنا 

 

 

google-playkhamsatmostaqltradent