خطبة بعنـــــــوان:
اليقيــــــــن
للدكتور/
محمد حســــن داود
(4 ربيع الآخر 1447هـ - 26 سبتمبر2025م)
العناصـــــر :
- اليقين: مفهومه، وعلاقته بالإيمان.
- أثر اليقين في النفوس والقلوب والجوارح.
- الإلحاد والعقل.
- صور الإلحاد وأسبابه.
- أثر الإلحاد وعلاجه.
الموضــــوع:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي جعل اليقين من صفات عباده المؤمنين، والثقة
فيه من شمائل أوليائه المتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن
سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، سيدُ الموقنين، وإمامُ الصابرين، لم تزلزل
عزيمتَه الخطوب، ولم تنل من يقينه الكروب، اللهم صل وسلم وبارك علي سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد .
فإن اليقين هو خير ما عمرت به النفوس، وامتلأت به
القلوب، وهذبت به الجوارح، وقد قال سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه
وسلمَ): «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ
بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ« (رواه الترمذي)، ويقول سيدنا
عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): "إنَّ أَعْظَمَ الْخَطَايَا اللِّسَانُ
الْكَذُوبُ، وَخَيْرَ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى،
وَرَأْسَ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللَّهِ، وَخَيْرَ مَا أُلْقِيَ فِي الْقُلُوبِ الْيَقِينُ"؛
إذ يظهر في القلب نورا وإشراقا ومحبة لله (عز وجل)، وخوفا منه، وثقة به، وشكرا له،
ورضا بقضائه، وتوكلا عليه، وإنابة إليه، وتقربا إليه، وتسليما له وإقرارا
بوحدانيته، وتصديقا بقوله.
فاليقين سكون للنفس
من غير اضطراب، وثبات للقلب من غير ارتياب، واعتقاد جازم لا شك فيه، وانكشاف للحق
لا ريب فيه فلا يبقى في الصدر منه غشاوةٌ ولا في العقل منه شك، ومن ثم فإن اليقين من
الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، يقول سيدنا عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه): "الصبر
نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله"، فالمؤمن قلبه بالله عامر، وبطاعته لله مستقر،
وبحب الله وذكره مطمئن، لا يداخل إيمانه شك ولا شبهة، ولا يزعزعه
ريب، يجد في ذكر الله راحةً، وفي الدعاء سلوى، وفي التقرب إليه أنسا، وفي الاستجابة
لأمره حياة، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ
اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
فأهل اليقين أهل الإيمان بالله، وملائكته،
وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره... أهل اليقين تعلقت قلوبهم بالله
(عز وجل) فلما سأل النبي (صلى الله عليه وسلمَ) سيدنا حارثة (رضي الله عنه) عن حقيقة
إيمانه، قَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لَيْلِي،
وَأَخْمَصْتُ نَهَارِي، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَكَأَنِّي
أَرَى أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَسْمَعُ عُواءَ
أَهْلِ النَّارِ فِيهَا، فَقَالَ: »عَرَفْتَ
فَالْزَمْ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالْإِيمَانِ«،... وأهل اليقين أهل صبر على
الشدائد، لا جزع ولا سخط ولا قنوط؛ فأعظم الناس صبرا أكثرهم يقينا، قال تعالى:
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا
يُوقِنُونَ) (الروم: 60) وكان من دعاء سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ):
"اللَّهُمَّ
اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ،
وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا
تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا" (رواه الترمذي والنسائي)،... وأهل اليقين
أشد الناس إنفاقا في الخيرات، ومسارعة في البر وعمل الصالحات، وبذلا للمعروف؛ لما
وقر في قلوبهم من اليقين بموعود ربهم (عز وجل) سبحانه هو القائل: (وَمَا
أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (سبأ: 39)، عن أَنَس بْن مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ) قال: "كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ
مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءُ، وَكَانَتْ
مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ:
فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا
مِمَّا تُحِبُّونَ)، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ
لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): »بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ! ذَلِكَ مَالٌ
رَابِحٌ! وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي
الْأَقْرَبِينَ«، فَقَالَ أَبُو
طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي
أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ"... وأهل اليقين
هم أهل التقوى، يهتدون بالآيات وينتفعون بالعظات، قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ
آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ) (الذاريات: 24)،... وأهل اليقين أهل خشوع واستقامة وعمل للآخرة،
قال سفيان الثوري: "إذا امتلأ القلب باليقين طار شوقا إلى الجنة وهو يأمن
النار"،... وأهل اليقين هم أهل الهدى والفلاح، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ) (السجدة: 24)، وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ
عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) البقرة: 4-5).
إن المتتبع
لكتاب الله العظيم، والناظر في سير من اختصهم الله بالنبوة والتكريم، يقف وقفة
إجلال وإكبار لصور اليقين الذي لا يقف عند حد، والثقة في الله الواحد الأحد؛ فهذا
سيدنا إبراهيم (عليه السلام) عندما ألقوه في النار يقول وهو متيقن بحفظ الله ونصره له: "حسبنا الله ونعم
الوكيل" فكانت النجاة. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، قالَ: كانَ
آخِرَ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ
الوَكِيلُ"... وانظر أمره مع السيدة هاجر، فقد عاشا واقعا يجسد كل معاني
اليقين، لما تركها عليه السلام هي وولدها إسماعيل (عليه السلام) بأمر من الله
(تعالى) إلى جوار بيت الله، حيث لا زرع، ولا ماء، ولا نبات، ولا إنسان؛ وهَمَّ
بالعودة، نادته: يا إبراهيم: آالله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: "إذن لن
يضيَّعنا" ثم دعا عليه السلام بهذه الدعوات وهو على ثقة بأن الله لن يضيع
زوجته وابنه وأن الله معهما: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ
فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَٱرْزُقْهُمْ مّنَ ٱلثَّمَرٰتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (إبراهيم: 37) فلما نفذ ما في سقائهما من ماء، سعت بين
الصفا والمروة تبحث عن ماء، حتى أرسل الله الملك فبحث بعقبه أو بجناحه حتى ظهر
الماء، فجعلت تغرف من الماء في سقائهما. ومن ذلك أيضا ما كان في الهجرة؛ عندما
استكن سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ) وصاحبه الغار، واشتد المشركون في
طلبهما وتعقّبوا كل مكان يمكن أن يختبئا فيه، ووصلوا إلى باب الغار، إذ اشتد الأمر
على أبي بكر، فعاجله النبي (صَلى الله عليه وسلم) بكل يقين، أن عناية الله
تحوطهما، قال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) (التوبة:40)، وفي هذا
يروي الإمام مسلم بسنده عن أبي بكر (رضي الله عنه) قال: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ
قَدَمَيْهِ ، فَقَالَ »يَا أَبَا
بَكْرٍ : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا «.
إن استشعار
معاني اليقين بالله (عز وجل) يحيي القلوب الموات، ويوقظ الضمائر من السبات، ويحرك
في الإنسان دواعي الخير، ويميت فيه نوازع الشر، فمتى عقل المرء هذا الأمر وملأ
قلبه، كان باعثا له على الإكثار من الطاعات، ومجانبة المنكرات، فاليقين شجرة طيبة إذا نبت أصلها في القلب
اطمأن وامتدت فروعها إلى الجوارح، فنبذت الشرور والمفاسد والآثام، وأثمرت عملا
صالحا وقولاً حسنا وسلوكاً قويما وفعلاً كريما، ومعان حميدة، منها حسن التوكل على
الله، والرضا بالرزق، وبما قدر الله (عز وجل) للعبد.
ثم إنه ما من
مسلم إلا ويرمي الشيطان على قلبه وعقله خيوطه وشباكه، يعرض له بخواطر طمعا أن يشوش
إيمانه، ويكدر صفو يقينه، طمعا أن يصد الناس عن دينهم وينشر الإلحاد، لكن المؤمن
الكيس الفطن يقطع تلك الوساوس والخيوط والشباك بسيف الذكر، ويرد كيد عدوه بثبات
القلب، ويدفع أفكار الشيطان عن عقله بصدق اليقين، فينقشع الغيم، ولا يقع في شك أو
ريب، وقد قال سيدنا الحبيب النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): »يَأْتِي
الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى
يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ
وَلْيَنْتَهِ «(متفق عليه).
ومن ثم فإن الإلحاد
ليس فكرا جديدا، إنما هو غبار قديم، قد
تراكم على بعض العقول والنفوس والقلوب، وإن ما يثير العجب: أن عقولا منحها الله
(عز وجل) قدرة التفكير، تركت البرهان الجلي، والآيات الكبرى، ووقفت حائرة أمام
أوهام وشبهات واهية، فالملحد يزعم أنه من أهل العقل والفكر، لكن إن تنظر في أمره تجد
أنه ما عقل شيئا، فالعقل الصحيح لا يقود صاحبه إلى إنكار الخالق أو غير ذلك من صور
الإلحاد -التي سنذكرها-، بل إلى إن العقل
الصحيح يقود العبد إلى الإيمان بربه (سبحانه وتعالى)، والله (عز وجل) يقول: (إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ
اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:
164)، فما قيمة عقل لا يهدي إلى الحق، ولا يوصل إلى الطمأنينة؟ فمن تأمل هذا الكون
الفسيح؛ السماء المرفوعة بلا عمد، والأرض المبسوطة، والجبال الرواسي، والبحار
الجارية، والإنسان في دقة تكوينه وإعجازه؛ تيقن أن وراء ذلك خالقًا عظيما، ومدبرا
حكيما، قال سبحانه: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:
35)، فأي عقل يقبل أن كتابا كتب بلا كاتب، أن بناء قام بلا بانٍ، أن نظاما دقيقًا
لا منظم له؟!، ورحم الله هذا الأعرابي، فلما سئل بم عرفت ربك؟،
قال: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض
ذات فجاج ألا تدل على اللطيف الخبير". ورضي الله عن سيدنا الإمام أبي حنيفة
فقد اجتمع بطائفة من الملاحدة فقالوا: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال: دعوني،
فخاطري مشغول بأمر غريب. قالوا: وما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة
من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها،
فقالوا له: أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال لهم: كيف
صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة، وهذا
الفلك الدوَّار السيَّار يجري، وتحدث هذه الحوادث من غير محدث، وتتحرك هذه
المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام. ويكفي أن ينظر العبد في نفسه
ليعرف ربه، فمن يستطيع أن يقول أن عينا تبصر بدقة عجيبة، وأذنا تسمع بأعجب نظام،
وقلبا ينبض بانتظام، وعقلا يميز بين الحق والباطل، أوجدتهم صدفة عابرة، والله
(سبحانه وتعالى) يقول: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21).
لله فـي
الآفـاق آيـات لـعـــــــــل *** أقلهـا هـو مـا إليـه هـــــــــــداك
ولعــل ما في النفس مـن آياتـه *** عجب عجاب لـو تـرى
عينــــاك
فيما يجدر أن
نبين أن الإلحاد ليس صورة واحدة، بل تتشعب
له ألوان وصور؛ الأولى: إلحاد مطلق صريح، يقطع أصحابه بجحود وجود الإله،
وينكرون كل قوة غيبية، أو خالق للكون... الثانية:
"الإلحاد الربوبي"، وهو مذهب من انتهى بعد طول بحث إلى الإقرار بوجود
قوة غيبية أوجدت العالم، ثم توقف عند هذا الحد، فلا يؤمن بوحي ولا نبوة ولا معجزة
ولا شريعة ولا عناية إلهية تحكم الكون وتدبر أمره، فهم يثبتون وجود الإله، لكنهم
ينفون عنه صفات الكمال... الثالثة:
"اللاأدرية"، وهم المتوقفون؛ لا يقطعون بنفي الإله، ولا يثبتون وجوده... الرابعة: هم
أصحاب الانفجار النفسـي، وهو حال من لم ينكر وجود الإله، لكنه يعلن غضبه واعتراضه
على وجود الشـر في الكون من براكينَ وزلازلَ وأمراضٍ وغيرِ ذلك مما يفترض به أن
يكون محـض إرادةٍ إلهية حرة، وأصحاب هذا اللون هم الأكثر عددا بين هؤلاء...
ومما لا شك فيه أن لوجود الإلحاد أساب من
أهمها:
- التبعية
الفكرية لصديق وقع في شباك الإلحاد: فالصاحب ساحب كما قيل، ولذلك يقول سيدنا
الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): »المَرْءُ على دِينِ خَليلِه، فَلْينظُرْ أحَدُكم مَن
يُخالِلْ «وقد أكّد القرآن
الكريم خطورة رفقة السوء، قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى
لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) (الفرقان: 27-28).
- ضعف الإيمان في مواجهة الشدائد والأزمات،
مما يؤدي إلى اليأس من روح الله، (عز وجل) وإلى الوقوع في شباك
الإلحاد.
- السطحية الفكرية: فهناك من الشباب إذا
أقبل على مقالة تروج للإلحاد، استسلم لبريق العرض وزخرف القول، فانخدع بما يلقى
إليه؛ لضعف فقهه وثقافته من ناحية ومن أخرى استسلامه لما يدور في عقله بجهل دون
سؤال غيره من أهل التخصص، وقد قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النحل: 43).
- الاضطرابات
النفسيّة.
- حب الشهوات
والملذَّات والتمسك بها مع الرغبة في التحلل من الحلال والحرام، وقد قال تعالى: (وَمَن
يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ *
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم
مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 36-37)
- الجمود
والانغلاق الديني، وقبح وتشدد الخطاب الصادر عن التيارات المتشددة المنغلقة
المتطرفة، والجماعات الإرهابية إذ يسوق ذلك كثيرا من الشباب إلى الإلحاد، نتيجةً
لقلَّة معرفتهم بالدين والواقع.
- سوء استخدام
شبكة الانترنت؛ فالإنترنت بحر متلاطم الأمواج، يجمع بين الجواهر
والسموم، وبين العلم والشبهات، فكان الحذر من أمواجه أمر مطلوب.
إن الإلحاد لم
يأت للمجتمع بعلم نافع، ولم يقدم للإنسانية سعادة أو طمأنينة، بل أورث أهله قلقا
وحيرة واكتئابا وضياعا؛ لا ينتج إلا فراغا في القلب، وظلمة في النفس، وقلقا
واضطرابا في الحياة، لا هدف حقيقي، ولا رسالة سامية، وقد قال تعالى: (فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) (طه: 123-124)، كما أنه يغرس بذور الأنانية، ويهدم
بنيان الأخلاق، ويقطع جذور الفضيلة، فلا أمانة ولا وفاء ولا غيرهما من القيم
الفاضلة.
كما أنه إذا
ساد أسرة، بدد قيمها، وفكك روابطها، وغيب عنها الشعور بالمسئولية، فالإلحاد يدمّر الفرد نفسيا وروحيا، ويُفقد الإنسان أعظم شيء
في الوجود، وهو صلته بربه ومعنى وجوده في هذه الدنيا، والفوز في الآخرة.
ولهذا كله كان
الإلحاد خطرا عظيما وشرا مستطيرا، ولا
تغلق أبوابه إلا باليقين الراسخ بالله (عز وجل)، ولا تطفأ نيرانه إلا بنور العلم
الصحيح الذي يكشف شبهاته ويبين زيفه، فليكن يقيننا بالله حصنا منيعا، ولنجعل العلم
الشرعي والفكري سلاحا ندفع به شبهات الإلحاد.
ويا أيها
الآباء والأمهات، اعلموا أنكم الحصن الأول لأبنائكم، والملجأ الأمين لقلوبهم
وعقولهم، فازرعوا فيهم نور اليقين منذ نعومة أظفارهم، فإن القلب إذا امتلأ بالقين
لم يجد الشك فيه مكانا، أحسنوا صحبتهم، وكونوا لهم قدوة صالحة، انظروا في أفكارهم
فالنبي (صَلى الله عليه وسلم) يقول: "كفى بالمرءِ إثمًا أن يُضَيِّعَ من
يقوتُ " (رواه أبو داود)، والإضاعة في التربية أشد شرا من الإضاعة في المال، إذ يقول سيدنا النبي (صلى الله عليه وسلمَ): »إِنَّ اللَّهَ
سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ ، أَحَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ ، حَتَّى
يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ« (صحيح ابن حبان).
اللهم اقسم لنا
من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، واحفظ مصر من كل مكروه وسوء، واجعلها
اللهم أمنا أمانا سخاء رخاء يا رب العالمين
=== كتبه ===
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومدرس
دكتوراة في الفقه المقارن
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ----- اضغط هنا