خطبة بعنـــــوان:
بالتي هي أحســـــن
للدكتور/ محمد حســـن داود
(25 ربيع الآخر 1447هـ - 17 أكتوبر2025م)
العناصـــــــــــر :
- الاختلاف سنة إلهية، وآية كونية.
- أنواع الاختلاف.
- من آداب الاختلاف.
- أثر الالتزام بآداب الاختلاف وعواقب تجاوزها.
- الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين،
الحمد لله الذي خلق الناس وأبدع تصويرهم، وفرق بين عقولهم وأفهامهم، وجعل اختلافهم
في الأشكال والألوان والألسنة دلالة على عظيم قدرته وحكمته، أمر بالتماسك والترابط
والوحدة، ونهى عن التنازع والشقاق والفرقة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، جمع الله به القلوب بعد الشتات،
ووحد به الصفوف بعد العداوات، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه،
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فإن الاختلاف سنة إلهية، فكل ما على ظهر
هذه الأرض مختلف، واختلافه آية، قال تعالى: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (النحل:
13)، فالعسل الذي يخرج من بطون النحل مختلف: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) (النحل: 69)، والنباتات والجمادات كلها مختلفات: (أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ
مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) (فاطر: 27ـــ 28)، فترى أن أرض تلك الثمار واحدة،
وماءها واحد، وشمسها واحدة، ومع ذلك تراها مختلفة في ألوانها وأشكالها وأحجامها
ومذاقها.
كما اقتضت حكمة الله (سبحانه وتعالى) أن
يخلق الناس مختلفين في الأشكال والألوان والألسنة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلقُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلسِنَتِكُمْ وَأَلوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلكَ
لآيَات للعَالمِينَ) (الروم: 22) مختلفين في الطبائع والأفكار والفهم والمعرفة والبيان
والاستدلال على حسب زوايا الرؤية ووجهات النظر، وإن كانوا كلهم من ذكر وأنثي، قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات: 13)، فمن الناس من يسأل عن الخير طمعا
أن يدركه، ومنهم من يسأل عن الشر مخافة أن يدركه، ومنهم ذو الطبيعة المرحة
المنبسطة، ومنهم ذو الطبيعة الانطوائية المنكمشة، ولا شك أن هذا الاختلاف في
الطباع يترتب عليه لا محالة اختلافا في الحكم علي الأشياء والمواقف، فالناس
مختلفون في الطبائع والأفكار والفهم والمعرفة على حسب زوايا الرؤية، ووجهات النظر،
وقلة العلم وكثرته، وغير ذلك مما يؤثر على الأفهام والأفكار، لكن الشرع الحكيم جاء
بضوابط وقواعد تضبط أمر هذا الاختلاف، فلا
يتحول إلى تنازع، ولا يتبدل إلى عداوة، بل يكون وسيلة للتعاون والتماسك والترابط
والنجاح.
فمن الاختلاف ما هو محمود وما هو مذموم؛
أما المذموم، فهو الاختلاف الذي يقود إلى الفرقة والتنازع، وتمزيق الوحدة، وعدم
الاجتماع، وقد نهانا الله (عز وجل) عنه فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران:
105)، وقال سبحانه: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال:
٤٦)، ويقول سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "إِنَّ الشَّيْطَانَ
قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي
التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" (رواه مسلم).
أما المحمود، وهو اختلاف التنوع لا
اختلاف التضاد، إذ تتعدد فيه الأقوال، وتتنوع فيه الآراء، ثم تلتقي في معين واحد،
وتصب في نهر جار إلى غاية سامية، اختلاف يفتح أبواب النجاح، ويثمر ثمار التعاون
والفلاح، لا يفسد للود قضية، ولا يقطع حبل الأخوة، بل تحفظ فيه الحقوق، وتصان فيه
الأعراض، ولذلك لما صنف رجل كتابا فسماه "الاختلاف"، قال له الإمام أحمد
بن حنبل (رضي الله عنه) لا تسمه "الاختلاف"، ولكن سمه
"السعة". وقد وقع مثل هذا بين أفضل الخلق بعد الأنبياء؛ صحابة رسول الله
(صلى الله عليه وسلمَ) فلم يتدابروا أو يتخاصموا أو يتنازعوا، ومن ذلك ما كان في جمع القرآن؛ فعن زيد بن ثابت
الأنصاري (رضي الله عنه)، قال: "أَرْسَلَ إلَيَّ أبو بَكْرٍ مَقْتَلَ أهْلِ
اليَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ عِنْدَهُ، قالَ أبو بَكْرٍ (رَضِيَ
اللَّهُ عنْه): إنَّ عُمَرَ أتَانِي فَقالَ: إنَّ القَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَومَ
اليَمَامَةِ بقُرَّاءِ القُرْآنِ، وإنِّي أخْشَى أنْ يَسْتَحِرَّ القَتْلُ
بالقُرَّاءِ بالمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ القُرْآنِ، وإنِّي أرَى أنْ
تَأْمُرَ بجَمْعِ القُرْآنِ، قُلتُ لِعُمَرَ: كيفَ تَفْعَلُ شيئًا لَمْ يَفْعَلْهُ
رَسولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)؟ قالَ عُمَرُ: هذا واللَّهِ خَيْرٌ،
فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لذلكَ، ورَأَيْتُ
في ذلكَ الذي رَأَى عُمَرُ" (رواه البخاري).
ولا يخفى على الجميع اختلاف العلماء في
مسائل كثيرة في فروع الدين، مع احترام متبادل فيما بينهم، وحب وتآلف، وود؛ لأن
قلوبهم سليمة، ونفوسهم طاهرة لا يؤثر فيها الاختلاف، فلما صلى الإمام الشافعي (رضي
الله عنه) الصبح في الكوفة بجوار قبر سيدنا الإمام أبي حنيفة (رضي الله عنه) لم
يقنت، مع أنه يرى القنوت في صلاة الصبح، وبعدما سلم قالوا له: أنسيت يا إمام؟!
فقال: لا، ولكني احترمت قبر أبي حنيفة، كل الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة... وذات
يوم اجتمع إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، والإمام الكبير عبد الحق الصِّقلِّيِّ،
وبعد مباحثة علمية طويلة حضرتهم الصلاة، فطلب الصقلي من الجويني أن يتقدم ليؤمهم
في الصلاة، فرفض الجويني، وطلب من الصقلي أن يؤمهم، فقال الصقلي: يا أبا المعالي
أنت شافعي والنبي (صَلى الله عليه وسلم) يقول: قدِّمُوْاْ قريشاً ولا تقدَّمُوْهاْ"
فلا بد أن تتقدم أنت يا أبا المعالي، فقال الإمام الجويني: الجزء لا يتقدم على
الكل "... ففهم العلماء من قوله أمرين: الأول: أن الشافعي كان تلميذا لسيدنا مالك
بن أنس (رضي الله عنهما)، فاحتراما له لم يتقدم الجويني ليؤم الصقلي في الصلاة،
لأن الصقلي كان مالكيا، وكان الجويني شافعيا .. الثاني: أن الإمام مالكا (رضي الله
عنه) يوجب في الوضوء المسح على الرأس كله، بينما يوجب الإمام الشافعي (رضي الله
عنه) المسح على بعض الرأس.
إذن فإن للاختلاف آداب يجب أن تراعى،
من أهمها:
- الكلمة الطيبة: فهي صالحة مثمرة
نافعة بإذن الله، تؤلف بين القلوب وتقرب بين الناس وتنشر المودة والمحبة، لذا حث
القرآن الكريم على التحلي بها، قال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)
(البقرة: 83) وقال عز وجل: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
(الإسراء: 53) ولك أن تتدبر هذا الموقفِ العظيمِ منَ النبيِّ (صلى اللهُ عليهِ
وسلمَ) وهو يحاورُ ذلكَ الشابَ الذي جاء يطلب رخصة في الزنا، وماذا كانت ثمرة هذا الكلام؛
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي
بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، فَزَجَرُوهُ، قَالُوا: مَهْ مَهْ،
فَقَالَ: "ادْنُهْ"، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ:
"أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ
فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ"،
قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ ؟"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ
يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟"، قَالَ: لَا
وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ
يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ، قَال: أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟"، قَالَ :
لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ
يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ، قَالَ: أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟"، قَالَ:
لَا وَاللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ
يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ:
"اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ
فَرْجَهُ"، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.
(رواه أحمد).
- طلب الحق، لا الانتصار للرأي: وانظر في
ذلك إلى الإمام الشافعي (رضي الله عنه) حين يقول: "ما ناظرت أحدًا قط إلا
أحببت أن يوفق ويسدد ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدًا إلا
ولم أبال بين الله الحق على لساني أو لسانه" (حلية الأولياء)، ولم يكن هذا
الكلام منه مجرد شعارات وادعاءات، بل شهد له أحد مناظريه وهو يونس الصَّدفي
قائلًا: "ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ولقيني،
فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في
مسألة" ( سير أعلام النبلاء).
- إحسان الظن بالمخالف: فالأصل أن نظن ببعضنا
خيرا، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً
مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات:١٢) وما أجمل قول الإمام أحمد بن حنبل عن
إسحاق بن راهويه (رحمهما الله): "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن
كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا".
- عدم لمز الغير أو تحقيره والسخرية
منه، أو الكذب عليه والتقول عليه بما لم يقله، فالنبي (صلى
الله عليه وسلمَ) يقول: " بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ
المسلِمَ". ولقد قيل: "إن المؤمن لسانه من وراء قلبه، إن تكلم بكلمة مرت
على قلبه، فإن أنكرها؛ تورع عنها، وإن أقرها؛ تكلم بها، والمنافق عكس ذلك يسعى
بالسوء ويحب الإساءة".
- ومن هذه الآداب: عدم احتكار الحقيقة
المطلقة في رأيك، فقد يكون في رأيك جانباً من الصحة، ويكون الجانب الثاني من الصحة
عند غيرك، ذلك أنه يجب علينا أن نحترم عقول بعضنا البعض. وقد كان الإمام الشافعي (رضي الله عنه)
يقول: "رأيي صوابٌ يحتملُ الخطأَ، ورأي غيري خطأٌ يحتملُ الصوابَ".
- ومن هذه الآداب التواضع: فقد قال حبيبنا
(صَلى الله عليه وسلم): "وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ، إِلا رَفَعَهُ"
(رواه مسلم) ولكم في ذلك مثالا نراه في حوار المصطفى (صلى الله عليه وسلم) مع
ثمامة ابن اثال و كيف كان الحوار مثمرا حتى صار وجه النبي أحب الوجوه إليه بعد أن
كان ابغض الوجوه إليه، فعن أَبَى
هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ
بَعَثَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَيْلًا قِبَلَ
نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ
بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: مَا
عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ
تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ
كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ، فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتُرِكَ حَتَّى كَانَ
الْغَدُ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فَتَرَكَهُ
حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فَقَالَ عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ: أَطْلِقُوا
ثُمَامَةَ، فَانْطَلَقَ إِلَى نَجْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ
دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ أَشْهَدُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،
يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ
وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا
كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ
الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ
بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ
أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ
اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ،
فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ
صَبَوْتَ، قَالَ لَا، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ
حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) (رواه البخاري).
- ومن آداب الاختلاف أيضا البعد عن
كثرة المراء والجدال الذي لا طائل تحته ولا فائدة من ورائه: فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "أَنَا
زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ
مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ، وَإِنْ
كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ".
إن في
الالتزام ومراعاة آداب الاختلاف وحدة الصف، ودوام الأخوة والمحبة والألفة، وصفاء
القلوب بعيدا عن الحقد والكراهية، وحب الناس والفوز بمكانة القدوة الحسنة، وبجنة الرحمن
(سبحانه وتعالى) فقد قال سيدنا الحبيب النبي (صلى الله عليه وسلمَ) "أَنَا
زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ
مُحِقًّا". بينما تجاوز آداب الاختلاف يصل بالناس إلى إيغار الصدور وزرع
الخصومات، وتمزيقِ الكلمةِ، ومن ذلك يقول تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا
الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ
كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء: ٥٣)، ويقول (عز وجل): (وَلَا
تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:
34).
ولعل من أرقى
ما قيل في أدب الاختلاف والتعامل الإنساني تلك العبارة المشهورة بين الناس:
"الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، الكثير لا يعلم من صاغ هذه العبارة،
ولا كيف انتشرت لتصبح واحدة من أهم العبارات وأشهرها، لكن يكفي أن نعلم أنها تختزل
معنى عظيما، إذ تدعو إلى سمو الأخلاق، واتساع الصدر لتقبل اختلاف وجهات النظر، دون
أن يتحول التباين الفكري إلى سبب للعداوة أو القطيعة، فإن كانت الحكمة تقتضي أن
يبقى الود والاحترام قائمين بين الناس رغم ما بينهم من اختلاف في الرأي، فإن هذا
ما حثنا عليه الشرع الحكيم، وأمرنا به، وقد ضرب لنا الصحابة الكرام وسلفنا الصالح
أروع الأمثلة في ذلك، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ:
كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، إِذْ
أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ آخِذًا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ حَتَّى أَبْدَى عَنْ رُكْبَتِهِ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا صَاحِبُكُمْ
فَقَدْ غَامَرَ" فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنِّي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الخَطَّابِ
شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَ لِي
فَأَبَى عَلَيَّ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْكَ، فَقَالَ: "يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ
يَا أَبَا بَكْرٍ" ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ
أَبِي بَكْرٍ، فَسَأَلَ: أَثَّمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لاَ، فَأَتَى إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، فَجَعَلَ وَجْهُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ، حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو
بَكْرٍ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ
أَنَا كُنْتُ أَظْلَمَ، مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ،
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ
تَارِكُوا لِي صَاحِبِي" مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا (رواه البخاري)..
وكان الإمام أحمد (رضي الله عنه) يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء، فقيل له أتصلى خلف
رجل احتجم ولم يتوضأ؟، قال سبحان الله، كيف لا أصلي خلف مالك بن أنس وسعيد بن
المسيب؟!.
اللهم أهدنا لأحسن
الأخلاق واصرف عنا سيئها وأحفظ مصر من كل مكروه وسوء
=== كتبه ===
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومدرس
دكتوراة في الفقه المقارن
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ----- اضغط هنا