recent
آخر المشاركات

خطبة بعنوان : الترشيد في حياتنا، موضوعا المياه، والإنفاق في رمضان أنموذجًا - للشيخ / محمد حســـــن داود


خطبة بعنوان :
الترشيد فـــــي حياتنا
موضوعا المياه، والإنفاق في رمضان أنموذجًا
للشيخ / محمد حســـــن داود





   لتحميل الخطبة : word  اضغط هنا
   لتحميل الخطبة : pdf     اضغط هنا
الموضـــــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)الاسراء29)  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل في حديثه الشريف" كُلُوا وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ " رواه النسائي) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،وبعد
لقد حرص الإسلام بتشريعاته المتكاملة، ومنهجيته المتزنة، على بناء شخصية مسلمة تنظر في خطواتها، وتحسن التصرف في كل النعم، تتحلى بالاعتدال، وتتخذ الوسطية منهجا لها، قال الله تعالى (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)البقرة143) فإن من معالم هذه الوسطية: الترشيد والاعتدال وعدم الإسراف في استخدام نعم الله جل وعلا، قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )الأنعام141) فعدم الترشيد في حياتنا والإسراف، مفسدة للنفس والمال، داء فتاك يهدد الأفراد والمجتمعات، ويبدد الأموال والثروات، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا سعد ابن أبى وقاص " إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" رواه البخاري ومسلم)  ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا " كَفي بِالمرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يقُوتُ" رواه أبو داود ) وجاء في الأثر ( مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ ) فلقد جاء التحذير من الإسراف والنهى عنه في غير موضع من كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى خطره وبيانا لعواقبه، فقال سبحانه وتعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا )الاسراء27) وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ ،رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ،صلى الله عليه وسلم" إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"متفق عليه) وعلى الجانب الآخر ترى أن الله تعالى مدح المحافظين على هذه الوسطية وهذا الترشيد والاعتدال، فقال سبحانه( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) الفرقان67)
وإن من ينظر في أحوال كثير من الناس اليوم يرى ويشهد، من غنى، بل والأعجب أن ترى أيضا من فقير، كثير من مظاهر غياب الوسطية والاعتدال والترشيد في المأكل والمشرب والملبس والأفراح بل والأتراح وكثير من جوانب الحياة، ولا يخفى علينا كثيرا من صور الإسراف في هذه الجوانب بل وفى غيرها، ومن ذلك :
- الإسراف في نعمة الماء : فإن كانت نعم الله على الإنسان لا يحدها حد, ولا يحصيها عد، كما قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )النحل18) إلا أن من أجل هذه النعم وأعظمها؛ نعمة " الماء " فلعظيم قدره وجليل أمره حفل القرآن الكريم بذكره والتنويه بشأنه في أكثر من ستين موضعا في القران الكريم، منها قوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا)المرسلات 27) وهذه إشارة واضحة جلية إلى أهمية هذه النعمة العظيمة الجليلة، فهي مصدر الحياة، قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ )الانبياء30) و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي ، وَقَرَّتْ عَيْنِي ، أَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ، قَالَ : " كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ " رواه بن حبان) ومن ثم فالماء هو مصدر الحياة، وأصل المعاش وسبيل الرزق،هو روح الخيرات ، حيثما كان، كان الخير؛ يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أينما كان الماء كان المال " فالسعي في حصر خصائصه، ووظائفه، ومنافعه، يعجز عنه الحاصرين، فلا شراب إلا بماء، ولا طعام إلا بالماء، ولا دواء إلا بالماء، ولا نظافة إلا بالماء، ولا صناعة إلا بالماء ولا زراعة إلا بالماء، قال جل وعلا (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )الأنعام 99) ومن ذلك كان اهتمام الناس جميعا بالماء على اختلاف الزمان والمكان والحال، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه قائلا  " مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ" فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)
إلا أن من الناس من تعودوا وجود هذه النعمة وألفوها؛ فهي دائما حاضرة بين أيديهم متى يريدونها يجدونها دون مشقة أو عناء أو مجرد سعى في طلبها، مما جعلهم قد ينسون قدر هذه النعمة وشأن هذه المنة؛ فلئن تخيل أحدنا انه فقد هذه النعمة ولو لزمن يسير، لا شك انه حينها يعلم أن فضل الله عليه بها عظيم، وأن فقدها خطر جسيم، يقول الله جل وعلا ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) الملك30) أو ليتصور وجوده، لكنه ملح أجاج؛ حينها يعلم أن وجود الماء وعذوبته نعمة إلهية، ومنحة ربانية، تستوجب حمد الله وشكره ، قال تعالى(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ)الواقعة56-58) ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حفيا بهذه النعمة يعظمها ويشكرها، وما أكثر الدعوات التي كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين يفرغ من طعامه إذا طعم ،وشرابه إذا شرب، فعَنْ ‏‏أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ‏‏قَالَ :‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ ‏: ‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى ،‏‏ وَسَوَّغَهُ ،‏ ‏وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا " رواه أبو داود ) إن هذه البشاشة التي يستقبل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمة الماء، وهذا الشكر الدائم لله على هذه النعمة؛ لهما أعظم دلالة على أهمية هذه النعمة العظيمة، فحرى بنعمة أشار إليها القران في أكثر من موضع، وأشارت إليها السنة النبوية في أكثر من موضع، غير أنها مصدر للحياة، أن تكون موجبة للشكر بالقول والعمل، وان من شكر الله تعالى علي هذه النعمة، الحفاظ عليها  بحسن التصرف فيها وحسن استغلالها، ومن ذلك الاقتصاد والترشيد في استعمالها وعدم الإسراف فيها ؛ فأي إسراف في استعمال الماء هو تصرف سيء وسلوك غير حميد، جاء النهي عنه، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل اغتسل بالقليل، وإذا توضأ توضأ باليسير فعن انس رضي الله عنه قال " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْسِلُ ، أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ ، بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ " رواه البخاري ) (الصاع أربعة أمداد، والمد ملء اليدين المتوسطتين) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَقَالَ : " مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ ، قَالَ : " نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ " رواه احمد) وإذا كان الاقتصاد في استعمال الماء في العبادة مطلوبا وعملا مرغوبا؛ فالاقتصاد في غير العبادة أولى ، وإن كان الذي يغرف منه نهرا أو بحرا، بل وعدم إهداره فيما لا فائدة منه ولا طائل أولى وأولى، فمن جار أو تجوز في استخدامه فوق الحاجة أو في غير ما خصص له إنما يعتدي على حقوق غيره .
كما أن مصادر المياه من أنهار أو بحار أو آبار أو غير ذلك  يجب أن يتعاون الجميع في سبيل إبقائها نظيفة نقية، فبهذا يسعى الجميع نحو الكمال وتحقيق ما أراده الإسلام من نظافة وجمال، ومحافظة على صحة الإنسان وعافيته، وسلامة بيئته، فصحة الجسد وجماله ونضرته ونقاء البيئة من كل ما يعكر صفوها، من الأمور التي وجه الإسلام إليها فائق العناية وعظيم الرعاية، واعتبرها من صميم رسالته وجوهر دعوته، إذ أن الإسلام دين الرقي والحضارة يريد لمصادر المياه أن تبقى كما أراد الله لها، بعيدة عن كل ما يعكر صفاءها، ويلوث نقاءها، والصورة التي صورها القرآن الكريم لها، والصفة التي وصفه بها، فقد جاء وصف الماء في القرآن الكريم بالبركة والطهور والعذوبة، يقول الله تعالى(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً) ق9) ويقول سبحانه وتعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً)الفرقان48) وقال سبحانه (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً) المرسلات 27) ولكي يبقى الماء على هذه الصورة النضرة الزاكية، والصفات الجميلة الراقية نهى الإسلام عن كل تصرف يؤدي به إلى خلاف ذلك، فعن جابر رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ " رواه مسلم ) وعن جابر أيضا انه قَالَ  " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي " فلقد شدد الإسلام النكير على كل من تصرف تصرفا أو سلك سلوكا حرم بسببه الماء من صفائه، وطهارته ونقائه، فَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَالظِّلِّ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ ) ويلحق بذلك إلقاء القاذورات فيه، والقمامة، وكل ما يعكر صفوه، فالاعتداء عليه اعتداء على حق المجتمع كله وطرح الأذى فيه أذى للمجتمع كله يأثم صاحبه بفعله، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) الأحزاب 58)
ولقد قرر الإسلام انه لا ضرر ولا ضرار، كما جاء عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْخُدْرِيّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"رواه بن ماجة والدارقطنى وغيرهما ) ومما لاشك فيه انه لا ضرر اشد من الضرر في مصدر الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَأِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ"
- ومن صور الإسراف أيضا : الإسراف في الطعام والشراب؛ إذ أن أخلاق الإسلام في النفقة هي التوسط والاعتدال، لا بخل ولا إسراف؛ إذ يقول الله جل وعلا (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)الاسراء29) وقال سبحانه (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )الأعراف31) وقال ابن عباس رضي الله عنه (كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خلتان: سرفٌ أو مخيلة) ذكره البخاري تعليقا في أول كتاب اللباس، ورواه ابن أبي شيبة) ومع هذا إلا أننا نجد صورا للتبذير والإسراف في المطعم والمشرب والنفقة وخاصة في شهر رمضان؛ فان كان الإسراف مذموما على كل حال؛ فلا شك أن يكون الذم اشد في شهر الطاعة والعبادة؛ وان كان الصيام فيه نوع من شعور القلب بالفقير؛ فلا شك أن الإسراف يمنع وصول هذا الشعور إلى القلب؛ وان كان شهر رمضان فرصة لتعويد النفس أفضل الأخلاق والبعد عن ذميمها؛ فلا شك أن الإسراف من أولى ما يتجنبه المسلم في هذا الشهر، وقد روي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدَيَّ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا جَابِرُ ؟ فَقُلْتُ : اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ . فَقَالَ عُمَرُ : أَوَكُلَّمَا اشْتَهَيْتَ يَا جَابِرُ اشْتَرَيْتَ ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ يَا جَابِرُ؟( أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) الأحقاف20) كما أن رمضان شهر عبادة وطاعة، ولا شك أن الإسراف في الطعام والشراب باب إلى الكسل والخمول وضياع الوقت وكثرة النوم، مما يفوت على العبد كثيرا من فرص الخير، والله جل وعلا يقول (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) الحج 77)غير أن رمضان شهر بر وإحسان، فهناك من هو أحوج إلى ما يهدر من طعام ليسد به جوعه أو ليقضى بثمنه حاجته، ولقد جاء عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ انه قَالَ" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ " .
غير انه من شكر الله تعالى على هذه النعمة؛ الترشيد وتجنب الإهدار والإسراف فيها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال في لقمة إذا سقطت من احدنا أن يمط عنها الأذى ويأكلها، فكيف بإهدار أضعافها، فعَنْ جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ ، فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ ليَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ، فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ تَكُونُ الْبَرَكَةُ ) رواه مسلم ) وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ ، قَالَ وَقَالَ " إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَسْلُتَ الْقَصْعَةَ ، قَالَ : فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ ") رواه مسلم )
غير أن في الترشيد في الطعام صحة الجسد وخفة النفس وجودة الذهن فعن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ،رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ،صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ" مَا مَلَأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ، يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ" شعب الإيمان).
هذا هو دِينُنا، ينهانا عن الإسراف والتبذير، ويدعونا إلى الاقتصاد والتوسط والاعتدال والترشيد، في أمور حياتنا، فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كُلُوا وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ " رواه النسائي) و روي عن أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه، انه قال "إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد"، ولنا الدرس والعبرة فيما وجه به النبي، صلى الله عليه وسلم ، في القصة المشهورة مع الرجل الذي جاء يسأله، فبعد أن باع له المتاع الذي عنده بدينارين، لم يقل له: أنفق هذا المال كله في طعام أهلك، بل قال له" اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ "، وليعلم كل منا أن نعمتي الطعام والماء من النعم التي نسأل عنها يوم القيامة، قال تعالى (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ )التكاثر8) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ " مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ " ؟ قَالَا : الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا " ، فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيْنَ فُلَانٌ " ؟ قَالَتْ ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي ، قَالَ : فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ : كُلُوا مِنْ هَذِهِ ، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ : فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ " ، فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ " رواه مسلم) وفي لفظ الترمذي " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : ظِلٌّ بَارِدٌ وَرُطَبٌ طَيِّبٌ وَمَاءٌ بَارِدٌ " .وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ - يَعْنِي العَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ - أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ المَاءِ البَارِدِ " رواه الترمذي)

===== كتبه ======
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومدرس


google-playkhamsatmostaqltradent