خطبة بعنـــــــوان :
البر بالأوطان من شمائل الإيمان
للشيخ / محمد حســـن داود
البر بالأوطان من شمائل الإيمان
للشيخ / محمد حســـن داود
الموضـــــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه
العزيز(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )آل عمران169-171) وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل في
حديثه الشريف "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ
الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله"رواه الترمذي وحسنه) اللهم
صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
إن من أعظم النعم واجلها، أن يكون للإنسان
وطن يعيش تحت ظلاله، ويتنفس هواءه، يجد فيه معنى السكينة، وحقيقة الطمأنينة، فيه تتصل
أمجاد الأجداد بالأحفاد، وتتلاحم قلوب الأهل والأحباب؛ فالوطن نعمة جليلة ومنة عظيمة؛
من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر في كتاب الله جل وعلا، فقد قرن خروج
الجسد من الوطن بخروج الروح من الجسد، قال تعالى(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ
قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً
لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) النساء66)؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها،
فليتدبر جيدا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا
فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ
لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها " رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي في السنن)
إذ يقدم نعمة الأمن والطمأنينة على نعمة من اجل النعم وهى العافية وصحة الجسد؛ من أراد
أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر إلى حال من فقدها، وليتدبر قيمتها في ميزان
من حرمها؛ ولينظر إلى شوق من غاب عنها، يقول إبراهيم بن ادهم " مَا قَاسَيْتُ
فِيمَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ الأَوْطَانِ " .فهي مهد الصبا
ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء والأجداد،
ومأوى الأبناء والأحفاد، فكم زلزلت بحب الأوطان مكامن وجدان، وأطلق حبها قرائح شعراء،
و سكبت في حبها محابر أدباء، وضحى من اجلها بالغالي والنفيس الأوفياء، وإننا لنجد في
سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمى الأمثلة لحب الوطن ، وترجمته في الواقع عملا
وبناء، حماية ودفاعا وتضحية، فلقد وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى إجادة الانتماء
للوطن، وحسن الولاء له، وإخلاص الوفاء له والبر به، داعيا إلى ترجمة هذا الحب، هذا
الوفاء، هذا البر، إلي عمل وجد؛ فهذا من شمائل الإيمان ؛ إذ يلقى صلى الله عليه
وسلم درسا بليغا يقرع كل الآذان، ويتردد صداه في كل زمان ومكان، وذلك عندما خرج صلى
الله عليه وسلم مهاجرا، ووصل أطراف مكة، التفت إليها، وقال "وَاللهِ إِنَّي أَعْلَمُ
أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبَّهَا إِلَى اللهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُوُنِي
مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"وفي رِوَاية "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ
إِليَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ"،
بل انظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم حينما وطأت قدمه وطنه الثاني (المدينة) إذ يتوجه
إلى الله داعيا أن يحبب إليهم المدينة كما حبب إليهم مكة ، كما في صحيح البخاري عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا
مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ ". فلقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم يعيش هذا الحب والانتماء الوطني بكل وجدانه وجوارحه؛ فقد جاء في
(البخاري ومسلم) عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في
الرقية: " باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا
بإذن ربنا "، وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، انه قَالَ" كَانَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ
أَوْضَعَ نَاقَتَهُ - أَيْ أَسْرَعَ بِهَا - وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا
"، ولقد اثر أن العرب كانت إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربة بلدها رملاً
وعفراً تستنشقه عند نزْلةٍ أو زكام أو صُداع "الرسائل للجاحظ) ولقد قيل لأعرابي:
كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟ قال "يمشي أحدنا
ميلا، فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس في فيه يكتال الريح، فكأنه
في إيوان كسرى" أي حب هذا؟ حتى يقول(أنا في وطني بهذه الحالة ملك مثل كسرى في
إيوانه)ياله من حب، وياله من وفاء، وياله من انتماء، فللمولى سبحانه الحمد على نعمة
الوطن، هذه النعمة التي لا تقدر بالأموال، ولا تساوم بالأرواح، بل تبذل الأموال لأجلها
وترخص الأرواح في سبيل الدفاع عنها، فالمخلصون يؤمنون بضرورة تقديم كل ما بوسعهم، وبأقصى
جهدهم، وبأعظم طاقتهم، لخدمة الوطن وبنائه، وحمايته، والدفاع عنه، والتضحية بالمال
والنفس في سبيل أمنه واستقراره، أولئك لهم بشرى الله جل وعلا في قوله (إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا
فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
)التوبة111) إذ أن شرف الشهادة في سبيل الله دفاعا عن الوطن لا يحصره قلم، ولا يصفه
لسان، ولا يحيط به بيان، شرفا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ
خَلْفَ سَرِيَّةٍ ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، ثُمَّ أُحْيَا
، ثُمَّ أُقْتَلُ ، ثُمَّ أُحْيَا ، ثُمَّ أُقْتَلُ " رواه البخاري) شرفا علمه
الشهداء فتمنوا الرجوع إلى الدنيا فيقتلوا مرارا، لما رأوه من الكرامة والرفعة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَا
مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ
مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ غَيْرُ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ
فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ "رواه مسلم ) فهم أحياء
عند ربهم يرزقون، قال تعالى( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ) البقرة154)وقال تعالى(وَلاَ تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ)آل عمران 169)تجرى عليهم أعمالهم، فعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ
: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " رِبَاطُ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ
عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ"
رواه مسلم ) آمنون من العذاب يوم القيامة قال رسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ؛ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"الترمذي والطبراني والبيهقي)هم
في الفردوس الأعلى، فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ
وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ" يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ
وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ
صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ، قَالَ:
يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ
الْأَعْلَى" . رواه البخاري)
وإننا لنجد في سيرة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، أسمى الأمثلة في الدفاع عن الوطن وحمايته إذ لم يقتصر هذا الحب عند العاطفة
فحسب؛ بل كان ذلك ظاهرا جليا في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، حفاظا على الوطن،
ودفاعا عنه، وتضحية من اجله، فلقد جاء عن انس رضي الله عنه انه قال " وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ
ذَاتَ لَيْلَةٍ ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ ، وَهُوَ
يَقُولُ : لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ
مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ ، فَقَالَ : لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا
. أَوْ : إِنَّهُ لَبَحْرٌ " كما تراه صلى الله عليه وسلم يبرم وثيقة المدينة
مع جميع الطوائف التي كانت تسكن المدينة بهدف الدفاع عن الوطن، والحماية له من أي عدو
يناوئه أو أي خطر يتهدده، وفى ذلك إشارة إلى أهمية الوحدة والتماسك بين جميع أبناء
الوطن، فليست ثمة قضية أجمع عليها قديما وحديثا مثلما أجمع على خطورة التفرق، وأن الوحدة
قوة تتضاءل إلى جانبها كل القوى المتفرقة، وان التفرق ضعف لا يضاهيه ضعف، ومما لا شك
فيه أن هذا من أعظم صور البر بالأوطان؛ فالاتحاد يصنع التقدم والنجاح، وينهض بالأمم
والحضارات،ومن ذلك أكد الإسلام على أهمية الاتحاد قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ
أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)آل
عمران103) وحذر من التفرق، قال الله تعالى (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال 46) وقال سبحانه ( وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الأنعام
153) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا،
وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ
لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ" مسلم) ولله
در القائل
كونوا جميعاً يأبني إذا اعتــرى *** خطب
ولا تتفرقوا آحــــادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقن تكسرت أفرادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً *** وإذا افترقن تكسرت أفرادا
ومن صور البر بالأوطان: العمل، إذ أن القوة
الاقتصادية من ضروريات التقدم والنجاح وهى عماد أول من أعمدة البناء والرقي ، ولن يقوى
الاقتصاد إلا بالعمل والإنتاج ؛ ولذا أمرنا الإسلام أن نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع
والطاقات والمواهب في العمل والإنتاج حتى في أحك الظروف؛ حتى وجهنا الإسلام أن قيام
الساعة لا ينبغي أن يحول بيننا وبين القيام بعمل فيه نفع للبلاد والعباد، فعَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ :
" إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ
أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " الأدب المفرد للبخاري)
ولو نظرت في كتاب الله تعالى لوجدت أن الله جل وعلا حث على العمل وطلب الرزق بعد الأمر
بالصلاة، ولعل في ذلك إشارة قوية لأهمية ومكانة العمل قال تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الجمعة 10)ومن ثم يظهر جليا أن الإسلام
اهتم اهتماما بالغا بكل ما كان من أثره تقدم الأوطان، وعلو شأنها ورفعتها، وفى سطور
تكتب بماء الذهب، ترى هدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع من أهمل وعطل طاقته ؛ إذ دعاه
أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، وأن يستنفد ما يملك من حيل وإن ضؤلت؛ فعن
أنس: أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم يسألُه، فقال: " أما
في بيتك شيءٌ؟" قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه
الماءَ، قال: "ائتني بهما"، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم بيده، وقالَ: "من يشتري هذين؟" قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ،
قالَ: "من يزيدُ على درهمٍ؟" -مرتينِ أو ثلاثاً-، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما
بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ: "اشتر بأحدهما
طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به"، فأتاه به، فشدَّ فيه
صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: "اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ
عشرَ يوماً"، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى
ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هذا خيرٌ
لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ،
لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ" رواه أبو داودَ
والترمذيِّ وحسنَّه) وإذا كان العمل من أعظم أسباب تقدم الأمم فان ذلك لن يتحقق إلا
بإتقانه، إذ أن إتقان العمل، وتجويده، من أهم الواجبات العملية التي حث عليها الإسلام،
فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
" إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ
" وفي رواية : ( إن الله تعالى يُحب من العامل إذا عمل العمل أن يُحسن "
(رواه البيهقي في الشعب).
ومن صور البر بالأوطان، حسن الخلق: إذ أن
الأخلاق الحسنة من صدق وأمانة، ... وغير ذلك من مكارم الأخلاق لهي أساس عظيم لبناء
الأمم فالسلوك الحسنة من شأنها أن تبني مجتمعًا قويا متماسكا لا تنال منه يد الأعداء،
يقول الشاعر
إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت** فإن هم ذهبت
أخلاقهم ذهبوا
ومن ينظر في الشريعة الإسلامية ليجد اهتمامها
الشديد بمكارم الأخلاق ، بل لا تعجب إن قلت لك أن غاية هذه الرسالة هي إتمام وإصلاح
مكارم الأخلاق، فهاهو النبي صلى الله عليه وسلم، يعلن هذا قائلا " إنَّما بُعِثْتُ
لأُتَمَّمَ صالحَ الأخلاقِ" رواه أحمد ) وحرى بنا أن نذكر أن الأخلاق التي تتقدم
بها الأمم لا تشمل ترويج الشائعات والأراجيف والأباطيل ؛ إذ أن الأراجيف
والشائعات سلاح لا تراه إلا بيد المغرضين وأصحاب الأهواء والأعداء والعملاء، والمنافقين؛
غايتهم منها كسر التآلف والتكاتف وإثارة الأحقاد ونشر الظنون السيئة، وترويج السلبيات
بين أبناء المجتمع وخلخلة الصفوف وإضعاف تماسكها والنيل من وحدة أبناء الوطن ، فليكن منهج كل واحد منا عند الحديث قول
الرسول صلى الله عليه وسلم "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ" وقوله صلى الله عليه وسلم " كَفَى بِالْمَرْءِ
كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ" وليكن منهج كل واحد منا في سمعه قول
الله عز وجل(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)الحجرات6)
إن البر بالوطن مرتبط بعمل الفرد وسلوكه
ارتباطا لا انفكاك منه، يلازمه في كل مكان، في حله وترحاله، في المنزل والشارع، وفي
مقر عمله، فيظهر في احترام أنظمته وقوانينه، بالمحافظة على منشآته ومنجزاته، بالمحافظة
على أمواله وثرواته، فالمال العام اشد حرمة من المال الخاص وذلك لكثرة الحقوق المتعلقة
به، وتعدد الذمم المالكة له، بنشر الخير والقيم والأخلاق الفاضلة، بنشر روح المحبة
والأخوة والتكافل والتراحم بين أبنائه فقد قال الله تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )المائدة2)، ويقول
النبي صلى الله عليه وسلم " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ"
يظهر في مناهضة الأفكار المتطرفة، ففي مناهضتها
توجيها للعقول والقلوب إلى الوسطية والاعتدال والسلم والسلام والمحبة والمودة، يظهر
في التنافس في خدمة الوطن كل حسب طاقاته وقدراته والمحافظة على أمنه واستقراره، بأن
يكون كل منا قدوة للأبناء والأجيال في حب الوطن وخدمته والحفاظ عليه والدفاع عنه والبر به .
(حفظ الله مصر وجيشها)
=====
كتبه =====
محمد حســــن داود
إمام وخطيب ومدرس
محمد حســــن داود
إمام وخطيب ومدرس