خطبة بعنـــــــوان :
البناء الاقتصادي السديد
وأثره في استقــــرار المجتمع
للشيخ / محمد حســــــــــن داود
ولتحميل
الخطبة : word اضغط هناالبناء الاقتصادي السديد
وأثره في استقــــرار المجتمع
للشيخ / محمد حســــــــــن داود
الموضـــــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه
العزيز (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ ) التوبة105) وقال سبحانه (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )الملك15)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل
في حديثه الشريف " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ،
فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " الأدب
المفرد للبخاري) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، وبعد
إن من أهم دعائم بناء الأوطان وتقدمها
ورفعتها: القوة الاقتصادية، فهي عماد أول من أعمدة البناء وعامل أول من عوامل القوة،
وباب عظيم إلى الازدهار والرقى بل والاستقرار، فمن الصعب أن يكون الاستقرار حقيقة
في امة ما إذا اختلت موازين الاقتصاد فيها، حيث أن ضعف الاقتصاد معناه الاضطراب
والفقر ونشوب الأزمات؛ ولقد جاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إبان خلافته ذات
يوم إلى السوق، فلفت نظره أن معظم الأسواق التجارية بيد الأنباط القادمين من بلاد الشام
فأغضبه ذلك، وهرع إلى المسجد ودعا الناس إليه، ثم خطب فيهم وأمرهم أن ينافسوا هؤلاء
الناس وأن يجعلوا مقادة التجارة والأعمال الاقتصادية كلها في أيديهم. فقال له أحد الجالسين:
يا أمير المؤمنين قومٌ سَخرهم الله لنا ففيما ننهض بما ينهضون عنا به؟ قال له عمر رضي
الله عنه: والله لئن قلتم هذا ليكونن رجالكم خدماً لرجالهم، وليكونن نساؤكم خدماً لنسائهم.
وإذا كان حديثنا عن البناء الاقتصادي
السديد، فلذلك عوامل وأسس، ولعلنا نتطرق في حديثنا هذا إلى عاملين أساسيين وفي
غاية الأهمية، أولهما: العمل والإنتاج ؛ فلأهميته ومكانته ودرجته كانت نظرة الإسلام
إليه نظرة توقير وتمجيد، فرفع قدره وقيمته، حتى جعل الإسلام من يسعى على كسب معاشه،
ورزق أولاده من حلال في درجة المرابط في سبيل الله، فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، رضي
الله عنه، أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَى أَصْحَابُ
رَسُولِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ ،
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم "إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ
فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ
فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي
سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ
كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ" الطبراني).
لقد تضافرت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
تؤكد على قيمة العمل ومكانته وتحث عليه وتدعو إليه وتبين فضله، قال تعالى (وَقُلِ اعْمَلُواْ
فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )التوبة105) وقال
تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )الجمعة10) فكان
سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ
عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ
فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم " لاَ يَغْرِسُ مُسْلِمٌ
غَرْسًا وَلاَ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلَ مِنْهُ إِنْسَانٌ وَلاَ دَابَّةٌ وَلاَ
شَىْءٌ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ " رواه مسلم) فالله ذلَّل لنا الأرض بما
فيها، وأمرنا أن نسير في أرجائها وان نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب
في كل عمل كان من شأنه نفع البلاد والعباد قال تعالي ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
)الملك15) ولم يقيد ذلك بزمان أو مكان بل دعا إلى العمل حتى في أحك الظروف، بل حتى
في أخر اللحظات من الحياة، حتى وجه أن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بيننا وبين القيام
بعمل منتج فيه مصلحة للبلاد والعباد ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي
يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا
فَلْيَغْرِسْهَا " الأدب المفرد للبخاري)
إن العمل والكسب، والسعي والاستثمار كان
دأب أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى (وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ
وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
) الفرقان20) والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى انه ما ترك العمل في حياته
ما بين رعى الأغنام والتجارة والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، كما أن الصحابة رضوان
الله عليهم كانوا يحترفون بأيديهم، وفي قصةِ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ما يدل
على ذلك؛ فقد روى أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ
أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ
وَمَالِكَ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ، ..."البخاري ومسلم) وعلى هذا كان السلف الصالح فقد روي أن الأوزاعى
لقي إبراهيم بن أدهم وعلي عنقه حزمة حطب، فقال له: يا أبا إسحاق إلى متى هذا؟ إخوانك
يكفونك، فقال دعني عن هذا يا أبا عمرو، فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال
وجبت له الجنة.
وكما حث الإسلام على العمل وأعلى مكانته
فقد ذم كل مظاهر الكسل والخمول ؛ فمن الناس من قد تتوفر لهم جميع الوسائل المعينة على
البناء والتعمير، وتحقيق رغباتهم واثبات هويتهم ومكانتهم، لكن يحجزهم عن ذلك الخمول
والكسل، فصدوا عن كثير من معالي الأمور، وان من المحزن والمؤسف انك ترى شبابا ذا قوة و ذكاء وفطنة ومواهب ومع ذلك تراهم كسالى وضعفاء
الهمة لا يبنون ولا يعمرون ولا يقومون على خدمة الدين والوطن، وفى مثل أولئك يقول عمر
بن الخطاب رضي الله عنه " أني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا
سقط من عيني ". وعندما دخل المسجد فوجد من يجلس بلا عمل فتوجه له قائلا
" لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر
ذهباً ولا فضة " وفى سطور تكتب بماء الذهب، ترى هدى الرسول صلى الله عليه وسلم
مع من أهمل وعطل طاقته ؛ إذ دعاه أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، وأن يستنفد
ما يملك من حيل وإن ضؤلت؛ فعن أنس: أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه
وسلم يسألُه، فقال: " أما في بيتك شيءٌ؟" قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط
بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: "ائتني بهما"، قالَ: فأتاه بهما،
فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: "من يشتري هذين؟"
قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: "من يزيدُ على درهمٍ؟" -مرتينِ أو ثلاثاً-،
قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ:
"اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به"،
فأتاه به، فشدَّ فيه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: "اذهب فاحتطِب وبع،
ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً"، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ
عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم: "هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ
لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ"
رواه أبو داودَ والترمذيِّ وحسنَّه) ومن هذا الموقف تتجلى لنا قضية مهمة جدا، وهى:
أن كل عمل يجلب رزقًا حلالا هو عمل شريف كريم مهما قل في أنظار الناس، ولو كان احتطاب
حزمة يجتلبها فيبيعها، فيكف الله بها وجهه أن يراق ماؤه في سؤال الناس، فعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"
لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ
بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ
ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ
تَعُولُ" رواه الترمذي وحسنه) فالإسلام
ينظر إلى أي عمل يسهم في الرقي والبناء والتعمير على أنه عمل طيب وبناء، فليس هناك
عمل محترم وآخر أقل احتراما ما دام حلالا، فالعمل في كل مهنة حلال وفي أي مجال طيب
شرف يعتز به، فغير أن الإنسان بهذا العمل يستغني عن ذل الحاجة، هو من جهة يطيع ربه
ومن أخرى يخدم وطنه، ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم، مثلا على ذلك بنفسه حيث زاول مهنة الرعي وهو صغير،
فذكرها معتزا بها وهو كبير، فقال صلى الله عليه وسلم " مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا
إِلاَّ وَرَعَى الغَنَمَ، فَقَالوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَأَنا كُنْتُ
أَرعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْـلِ مَكَّةَ" كما ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم
على ذلك مثلا بمهنة أخيه نبي الله داود، عليه السلام، والذي كان يعمل في الحدادة فقال
" مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ،
وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاودَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ".
إن اليد التي لا تعمل عملا ولا تزاول حرفة
ولا تسهم في التعمير والبناء هي يد شلاء، وإن العقل الذي لا يسهم في اختراع وابتكار
وتجديد هو عقل أغفل مهمته، وفقد رسالته، ولقد روى أن شقيقاً البلخي، ذهب في رحلة تجارية،
وقبل سفره ودع صديقه إبراهيم بن أدهم حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم
يمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجباً: ما الذي
عجّل بعودتك؟ قال شقيق: رأيت في سفري عجباً، فعدلت عن الرحلة، قال إبراهيم: خيراً ماذا
رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائراً كسيحاً أعمى، وعجبت
وقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لا يبصر ولا يتحرك؟ ولم
ألبث إلا قليلاً حتى أقبل طائر آخر يحمل له العظام في اليوم مرات حتى يكتفي، فقلت:
إن الذي رزق هذا الطائر في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي، فقال إبراهيم:
عجباً لك يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة
غيره، ولم ترض أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه وعلى غيره من العميان والمقعدين؟
أما علمت أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟ فقام شقيق إلى إبراهيم وقبّل يده، وقال:
أنت أستاذنا يا أبا إسحاق، وعاد إلى تجارته .
وإذا كان العمل ركيزة أساسية في البناء
الاقتصادي السديد؛ فان ذلك لن يتحقق إلا بإتقان العمل، إذ أن إتقان العمل، وتجويده،
والتميز فيه من أهم سمات الشخصية الوطنية، ومن أهم الواجبات العملية التي حث عليها
الإسلام، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
" إِنَّ اللهَ عز وجل، يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ
" وفي رواية : " إن الله تعالى يُحب من العامل إذا عمل العمل أن يُحسن
" رواه البيهقي في الشعب)
كما أن من مقومات البناء الاقتصادي
ترشيد الاستهلاك؛ فلقد حرص الإسلام بتشريعاته المتكاملة، ومنهجيته المتزنة، على بناء
شخصية تنظر في خطواتها، وتحسن التصرف في كل النعم، تتحلى بالترشيد والاعتدال وعدم الإسراف،
قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ
وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ
مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ
وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )الأنعام141) وقال سبحانه (وَلَا
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُومًا مَحْسُورًا)الاسراء29) وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" كُلُوا وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ
" رواه النسائي) إذ أن عدم الترشيد في حياتنا والإسراف، مفسدة للنفس والمال، داء
فتاك يهدد الأفراد والمجتمعات، ويبدد الأموال والثروات، ولقد قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لسيدنا سعد ابن أبى وقاص " إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ
خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ" رواه البخاري ومسلم) ويقول صلى الله عليه وسلم أيضا " كَفي بِالمرْءِ
إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يقُوتُ" رواه أبو داود ) وجاء في الأثر ( مَا عَالَ
مَنِ اقْتَصَدَ ) لذلك كان التحذير من الإسراف والنهى عنه في الشريعة الإسلامية إشارة
إلى خطره وبيانا لعواقبه، قال الله سبحانه وتعالى (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ
الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا )الاسراء27) وقال جل وعلا
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا
تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )الأعراف31) وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ
،رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ،صلى الله عليه وسلم" إِنَّ اللَّهَ
يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلاَثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ
وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ
تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ"متفق
عليه) وقد روي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدَيَّ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا جَابِرُ
؟ فَقُلْتُ : اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ . فَقَالَ عُمَرُ : أَوَكُلَّمَا
اشْتَهَيْتَ يَا جَابِرُ اشْتَرَيْتَ ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ يَا جَابِرُ؟(
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا) الأحقاف20) وقال ابن عباس
رضي الله عنه (كل ما شئت والبس ما شئت، ما أخطأتك خلتان: سرفٌ أو مخيلة) ذكره البخاري
تعليقا في أول كتاب اللباس، ورواه ابن أبي شيبة) وعلى الجانب الآخر ترى أن الله تعالى
مدح المحافظين على هذا الترشيد والاعتدال، فقال سبحانه( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) الفرقان67) غير
انه من شكر الله تعالى على نعمه؛ الترشيد وتجنب الإهدار والإسراف فيها، فإذا كان النبي
صلى الله عليه وسلم قال في لقمة إذا سقطت من احدنا أن يمط عنها الأذى ويأكلها، فكيف
بإهدار أضعافها، عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ
كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِهِ ، فَإِذَا سَقَطَتْ
مِنْ أَحَدِكُمْ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطْ مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى، ثُمَّ ليَأْكُلْهَا
وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ، ... "رواه مسلم ) كما روي عن أبي بكر الصديق،
رضي الله عنه، انه قال " إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق أيام في يوم واحد "هذا
هو دِيننا، ينهانا عن الإسراف والتبذير، ويدعونا إلى الاقتصاد والتوسط والاعتدال والترشيد
ليس في المأكل والمشرب فحسب بل في كل ما يتعلق بالقوة الاقتصادية من كهرباء ومياه،
وغير ذلك فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: " مَا
هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ ، قَالَ : " نَعَمْ
، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ " رواه احمد ) فما أحوجنا إلى امتثال
أوامر الشرع الحنيف حتى تستقيم حياتنا .
( الدعــــــــــاء )
===== كتبه =====
محمد حســــن داود
إمام وخطيب ومدرس
===== كتبه =====
محمد حســــن داود
إمام وخطيب ومدرس