خطبة بعنــــــوان:
حق الوطن والتضحية في سبيله
للشيخ/ محمد حســـــن داود
25 جمادى الآخرة 1443هـ - 28 يناير 2022م
العناصــــــر: مقدمة :
- مكانة الوطن في الإسلام.
- نماذج من حب النبي (صلى الله عليه وسلم) لوطنه، ودعوته إلى محبة الوطن والوفاء له .
- صور من حقوق الوطن والتضحية في سبيله.
- دعوة إلى تحقيق معاني الحب والوفاء والتضحية في سبيل الوطن.
الموضوع: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ؛ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (الطبراني والبيهقي والترمذي وحسنه)، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
إن من أعظم النعم وأجلها، أن يكون للإنسان وطن يعيش تحت ظلاله، ويتنفس هواءه، يجد فيه معنى السكينة، وحقيقة الطمأنينة، فيه تتصل أمجاد الأجداد بالأحفاد، وتتلاحم قلوب الأهل والأحباب، فالوطن نعمة جليلة ومنة عظيمة؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر في كتاب الله (جل وعلا)، فقد قرن خروج الجسد من الوطن بخروج الروح من الجسد، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) (النساء66)؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فليتدبر جيدا قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها " (رواه البخاري في الأدب المفرد) من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر إلى حال من فقدها، وليتدبر قيمتها في ميزان من حرمها؛ فهي مهد الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، فكم زلزلت بحب الأوطان مكامن وجدان، وأطلق حبها قرائح شعراء، وسكبت في حبها محابر أدباء، وضحوا من أجلها بالغالي والنفيس الأوفياء، وإننا لنجد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسمى الأمثلة لحب الوطن، وترجمته في الواقع عملا وبناء، حماية ودفاعا وتضحية، فلقد وجه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى إجادة الانتماء للوطن، وحسن الولاء والانتماء له، وإخلاص الوفاء له، داعيا إلى ترجمة هذا الحب إلي عمل وجد، من أجل الوطن، وحفاظ عليه، ودفاع عنه؛ إذ يلقى درسا بليغا يقرع كل الآذان، ويتردد صداه في كل زمان ومكان, وذلك عندما خرج مهاجرا، ووصل أطراف مكة، التفت إليها، وقال "وَاللهِ إِنَّي أَعْلَمُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبَّهَا إِلَى اللهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" وفي رِوَاية "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِليَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ"، ولما وصل المدينة توجه إلى الله داعيا أن يحببها إليهم كما حبب إليهم مكة، كما في (صحيح البخاري) عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ". فلقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعيش هذا الحب والانتماء الوطني بكل وجدانه وجوارحه؛ فقد جاء في (البخاري ومسلم) عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقول في الرقية: "باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا"، وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، انه قَالَ" كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ - أَيْ أَسْرَعَ بِهَا - وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا "، وما أعظم ما جاء عن انس (رضي الله عنه) في حب النبي (صلى الله عليه وسلم) لوطنه ودفاعه عنه، قال: " وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ يَقُولُ : لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ : لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا. أَوْ : إِنَّهُ لَبَحْرٌ ".
وتدبر في حال العرب وحبهم لوطنهم، فقد أثر أن العرب كانت إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزْلةٍ أو زكام أو صُداع "(الرسائل للجاحظ) ولقد قيل لأعرابي: كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟ قال "يمشي أحدنا ميلا، فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس في فيه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى" أي حب هذا؟ حتى يقول(أنا في وطني بهذه الحالة ملك مثل كسرى في إيوانه)
يا له من حب، ويا له من وفاء، ويا له من انتماء فللمولى سبحانه الحمد على نعمة الوطن
هذه النعمة التي لا تقدر بالأموال، ولا تساوم بالأرواح، بل تبذل الأموال لأجلها وترخص الأرواح في سبيل الدفاع عنها
فالمخلصون يؤمنون بعظم حق الوطن وبضرورة تقديم كل ما بوسعهم، وبأقصى جهدهم، وبأعظم طاقتهم، لخدمة الوطن وبنائه، وحمايته، والدفاع عنه، والتضحية في سبيله، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ؛ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"( الطبراني والبيهقي والترمذي وحسنه).
إن حب الوطن سلوك وواجبات وتضحيات بالغال والنفيس، وليس كلمات نرددها؛ فيظهر حب الوطن في احترام قوانينه, فاحترام القانون من القيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وهو ثقافة حضارية وواجب ديني ووطني وجب على الجميع الالتزام به، وتربية الأبناء على الالتزام به منذ الصغر.
كما يظهر بالحفاظ على ممتلكاته وأمواله؛ فالمال العام أشد في حرمته من المال الخاص؛ وذلك لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له، ولقد قال الله تعالى (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (آل عمران161)
كما يظهر الوفاء للوطن بالتمسك بالعلم، فهو من ركائز وأسس البناء والرفعة والتقدم، وبه تتفاضل الأمم؛ فيما يجب أن نعلم أن العلم الذي نقصد يشمل كل علم نافع في جميع المجالات التي فيها مصلحة البشرية، وتيسير أمور حياتها؛ فقوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر28) جاء في معرض الحديث عن العلوم الكونية مما يدل على اهتمام الإسلام ودعوته إلى العلم النافع في جميع المجالات، كما أن في العلم حفظ العقول مما يفسدها، كالتصورات الخاطئة والأفكار المتطرفة، ولا شك أن حفظ العقول من أبواب الوفاء للوطن كما أنه باب عظيم إلى البناء والتقدم والرقي .
- العمل والإتقان: فالقوة الاقتصادية ضرورية في تقدم الأوطان وهى عماد أول من أعمدة البناء وعامل أول من عوامل القوة، ولن يقوى الاقتصاد في امة إلا بالعمل والإنتاج و دعم المنتجات الوطنية، ولذا أمرنا الإسلام أن نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في العمل والإنتاج حتى في أشد الظروف؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، قَالَ "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " (الأدب المفرد للبخاري)
- وإذا كان العمل من أعظم أسباب التقدم فان ذلك لن يتحقق إلا بإتقان العمل، ولقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم)" إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ " كما ان دعم منتجات الوطن صناعة وتجارة وزراعة وتسويقا، لا شك أنه يحقق الرخاء الاقتصادي.
- الوفاء بالواجب الوظيفي، فهو أمانةٌ، والأمانة حقُّها أنْ تؤدَّى، وهو واجب شرعي ووطني، والمؤمن دائما ما يستشعر في عمله قول الله سبحانه(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد 4)
- تقديم المصلحة العامة على الخاصة: فلقد دعا الإسلام إلى تقديم ما فيه مصلحة الوطن على المصلحة الخاصة، وعظم أجر كل فعل كان فيه مصلحة عامة للمجتمع وأعلى من شأنه وقيمته، فقد قال تعالى(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) المائدة 2) ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ" (رواه الطبراني) أما ترى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) عظم مكانة الصدقة الجارية، ففيها تقديم انتفاع الناس بها، إذ يقول صلى الله عليه وسلم " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ : إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " رواه مسلم) ويقول أيضا " سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ " أما ترى مدح النبي للأشعريين بتقديمهم المصلحة العامة على الخاصة فقال: "إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ، جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ، بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ" (رواه مسلم) ولهذا الأجر والفضل كان الصحابة رضي الله عنهم، على مثل هذا، فقد ذكر الحسن البصري رحمه الله" أنه أدرك أقواماً يتصدَّقون بنصف أقواتهم الضرورية على مَنْ هم أقلُّ حاجة منهم". فذلك اسمي معاني الإيثار الذي دعانا الإسلام الى تحقيقه.
إن التضحية من أجل الوطن والدفاع عنه وحبه والوفاء بحقه ليس كلمات؛ بل إنه مرتبط بعمل الفرد وسلوكه، يلازمه في كل مكان، في حله وترحاله، في المنزل والشارع ومكان العمل، فيظهر حق الوطن في إخلاص الوفاء له ، كما يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، واحترامه وتقديره، يظهر في القيام بالواجبات والمسئوليّات على أكمل وجه، يظهر في نشر الخير والقيم والأخلاق الفاضلة، ونشر روح المحبة والأخوة بين أبنائه، يظهر في عدم السعي خلف الشائعات التي يسعى مروجيها إلى النيل منه، وقد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(الحجرات 6) يظهر في مناهضة الأفكار المتطرفة، ففي مناهضتها توجيه للعقول والقلوب إلى الوسطية والمحبة والمودة، يظهر في التنافس في خدمة الوطن كل حسب طاقاته وقدراته والمحافظة على أمنه واستقراره، يظهر بأن يكون كل منا قدوة للأبناء والأجيال في حب الوطن وخدمته والحفاظ عليه والدفاع عنه والوفاء له والتضحية في سبيله.
حفظ الله مصر وقائدها وجيشها وشرطتها من كل مكروه وسوء
=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
ماجستير في الدراسات الإسلامية
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ---- اضغط هنا