الإخلاص في القول والعمل
للشيخ / محمد حســـــن داود
لقد خلقنا الله تعالى لعبادته، وأمر أن تكون هذه العبادة خالصة لوجهه، و ابتغاء مرضاته، فقال: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة 5). فالإخلاص كما عرفه العز بن عبد السلام: " أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده، لا يريد بها تعظيماً من الناس ولا توقيراً، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي" (مقاصد المكلفين) وقال عنه سهل بن عبد الله التستري "الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة ".
أي أن يقصد الإنسان بقوله وعمله، بحركاته وسكناته، وجه الله (تعالى) وابتغاء
مرضاته، من غير نظر إلى مغنم من حطام الدنيا أو محبة أو مدح من الخلق، قال تعالى (قُلْ
إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ
شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام162-163).
وعلى ذلك فإن الإخلاص هو روح الطاعات، وجوهر العبادات، هو بمنزلة الأساس
للبنيان، والروح للجسد، قال تعالى (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا
لَّهُ الدِّينَ) (الزمر11) هو شرط قبول الطاعات، والجزاء بالحسنات والرفعة في الدرجات،
قال تعالى (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـالِحًا وَلاَ
يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا ) (الكهف 110) وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أنِ
النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي
آدَمَ فِي صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اقْبَلُوا هَذَا وَدَعُوا
هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ:مَا عَلِمْنَا إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ اللَّهُ:
هَذَا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي، وَهَذَا مَا لَمْ يُرَدْ بِهِ وَجْهِي، وَلا أَقْبَلُ
إِلَّا مَا أُرِيدَ بِه وَجْهِي "(رواه
الدارقطني).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ،
وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ "(متفق عليه ) فالله (سبحانه
وتعالى) ينظر إلى القلوب، والقلوب موطن الإخلاص، وينظر إلى الأعمال، والأعمال تتفاضل
بالإخلاص فيها، يقول عبد الله بن المبارك: "رُبّ عملٍ صغيرٍ تعظّمه النية، وربّ
عملٍ كبيرٍ تصغّره النية" (جامع العلوم والحكم) ولك أن ترى كيف أن الأعمال مع
قلتها و يسر مشقتها تصل إلى الدرجات العلى بالإخلاص وصدق النية، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حِينَ
بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَوْصِنِي . قَالَ: "أَخْلِصْ
دِينَكَ ، يَكْفِكَ الْعَمَل الْقَلِيل" (رواه الحاكم والبيهقي )، وقال ابن كثير،
في قوله تعالى: (واللَّهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَاء) (البقرة261) "أي: بحسب إخلاصه
في عمله (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) أي : فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق
ومن لا يستحق " (تفسير ابن كثير).
إن المخلصين لربهم و الصادقين قلوبهم قد جمعوا الأجر والثواب، فللإخلاص
ثمرات لا يجنيها إلا من ابتغى بالعمل رضا المولى (عز وجل) ، منها:
- أن الله يبلغهم منازل العاملين حتى ولو لم يوفّقوا إلى العمل، فعن أبي
كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيُّ، قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وسلم): " إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ
اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ،
وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ
اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ
أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ،
وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي
مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ،
وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ
يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ
فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ "(رواه الترمذي،
وقال: حسن صحيح).
- ليس للشيطان عليهم سلطان، قال تعالى حكاية عن إبليس (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (ص83).
- الفوز بنعيم الجنة، فقد قال تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى
حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ
لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً
عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ
نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (الإنسان
8-12) و قال تعالى (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ*أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ
مَّعْلُومٌ*فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ) (الصافات 40-42).
أما من كان همه وغايته رضا الناس ومدحهم له بطاعته لله، ولم يقصد رضا
الله (سبحانه وتعالى) ولا ابتغاء وجهه، فالله
غني عن عمله ، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): " إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ
مِنَ الْعَمَلِ إِلا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ"، ولقد
جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقال له يا رَسُولَ اللهِ،" إِنِّي أَقِفُ
الْمَوْقِفَ أُرِيدُ وَجْهَ اللهِ، وَأُرِيدُ أَنْ يُرَى مَوْطِنِي، فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى نَزَلَت (فَمَنْ
كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا، وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ
رَبِّهِ أَحَدًا ) (الكهف110) (رواه البيهقي ) ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): قال
الله (تبارك وتعالى ): "أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلا أشرك
فيه مَعي غيري تركتهُ وشِرْكه "(رواه مسلم) .
فكم أحبط الرياء الأعمال، و كم خيب الآمال، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إنّ
أَوّلَ النّاسِ يُقْضَىَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ
بِهِ فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ
فِيكَ حَتّىَ اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ
جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ
فِي النّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلّمَ العِلْمَ وَعَلّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ
بِهِ، فَعَرّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلّمْتُ
العِلْمَ وَعَلّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلََكِنّكَ تَعَلّمْتَ
العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِىءٌ، فَقَدْ
قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ وَجْهِهِ حَتّىَ أُلْقِيَ فِي النّارِ، وَرَجُلٌ
وَسّعَ الله عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ المَالِ كُلّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرّفَهُ
نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ
تُحِبّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلاّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنّكَ
فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَىَ
وَجْهِهِ، ثُمّ أُلْقِيَ فِي النّارِ"( رواه مسلم).
=== كتبه ===
محمد
حســــــــن داود
إمام
وخطيب ومـــــــــــدرس
ماجستير
في الدراسات الإسلامية
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ---- اضغط هنا