recent
آخر المشاركات

الدفاع عن الأوطان والأرض والعرض- للشيخ محمد حسن داود

 

خطبة بعنــــوان:
الدفاع عن الأوطان والأرض والعرض
للشيخ / محمد حســــن داود

(5 ربيع الآخر 1445هـ - 20 أكتوبر 2023م)


العناصــــــر:      مقدمة :

- مكانة الوطن.
- الدفاع عن الأوطان والأرض والعرض واجب شرعي ووطني.
- الدفاع عن الأوطان والأرض والعرض في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه.
-  فضل الدفاع عن الأوطان والأرض والعرض.
- دعوة إلى تحقيق معاني الدفاع والحفاظ على الوطن.

الموضوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: (إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ) (الحجرات 15)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (رواه الترمذي)، اللهم صل وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فإن من أعظم النعم أن يكون للإنسان وطن يعيش تحت ظلاله، ويتنفس هواءه، يجد فيه معنى السكينة وحقيقة الطمأنينة، فيه تتصل أمجاد الأجداد بالأحفاد، وتتلاحم قلوب الأهل والأحباب، فالوطن نعمة جليلة ومنة عظيمة؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر في كتاب الله (جل وعلا)، فقد قرن خروج الجسد من الوطن بخروج الروح من الجسد، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) (النساء66).

فهي مهد الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، فكم زلزلت بحب الأوطان مكامن وجدان، وأطلق حبها قرائح شعراء، وسكبت في حبها محابر أدباء، وضحى من أجلها بالغالي والنفيس الأوفياء.

إن لحب الأوطان والوفاء لها صورا متعددة، وأشكالا متنوعة، وأشرق هذه الصور وأجلاها: الدفع عنها؛ فلا شك أن الدفاع عنها واجب شرعي وواجب وطني، فإن في أمانها واستقرارها إقامة العبادات، وحياة النفوس واطمئنانها واستقرارها؛ لذلك ولغيره كان طلب الأمن في البلاد هو أول ما دعا به الخليل إبراهيم ( عليه السلام)، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) (إبراهيم 35)، حيث قدم إبراهيم (عليه السلام) الأمن في الطلب على العبادة، لأنه إذا انعدم الأمن انعدمت بعض العبادات والطاعات والقربات، فانظر على سبيل المثال عبادة الحج؛ من شروط وجوبها: الأمن، فإذا وجد الإنسان نفقة الحج ولم يكن الطريق إليه آمناً فلا يجب عليه الحج، قال الله تعالى: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (البقرة196).

وفي آية اخرى يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (البقرة 126) حيث كان تقديم الأمن على الرزق؛ لأن وجود الأمن سبب لوجود الرزق، ولأنه لا يطيب للإنسان رزق في عدم وجود الأمن، ودليل ذلك أن الله (عز وجل) قدم الخوف في الابتلاء على نقص الطعام، فقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) (البقرة 155).

ومن ينظر حال النبي (صلى الله عليه وسلمَ) يجد أعظم الأمثلة في الدفاع عن الأوطان والأرض والعرض؛ فعن أنس (رضي الله عنه) أنه قال: كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ يَقُولُ: "لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا" وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ: " لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا. أَوْ: إِنَّهُ لَبَحْرٌ ".

والمتدبر في سيرة النبي (صَلى الله عليه وسلم)، يجد أن جميع الغزوات التي شارك فيها كانت تحمل أسمى المعاني في حماية الوطن والأرض والعرض والدفاع عنه وعن استقراره وأمنه وأمانه، ورد عدوان أعدائه وإبطال حيلهم ومكرهم، ففي غزوة الخندق اجتمعت الأحزاب من كل حدب وصوب لحصار المدينة والإغارة عليها فكان القتال دفاعاً عن النفس والوطن والعرض. وفي غزوة أحُد؛ أراد المشركون أن يستبيحوا حرمة المدينة وان يعتدوا على المسلمين في وطنهم؛ فكان الدفاع عن الأرض والعرض رداً للعدوان وحماية للوطن.

إذن فالذي يدافع عن وطنه وعرضه وأرضه ويحافظ عليه يسير على خطى النبي (صلى الله عليه وسلمَ) وأصحابه (رضي الله عنهم) خير الخلق بعد الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، فلما هاجر النبي (صلى الله عليه وسلمَ) وأصحابه إلى المدينة رأي مدى حبهم لوطنهم مكة ومدى شوقهم إليها، فكان يسأل الله كثيرا أن يرزقه هو وأصحابه حبَّ المدينة حبًّا يفوق حبَّهم لمكة، فكان يقول: "اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ" (رواه البخاري)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: "اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا، اللهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ مَعَهُ" (رواه مسلم). ورضي الله عن عثمان بن عفان إذ جهز جيش العسرة وحده، وقد قال فيه النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ، مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ"(رواه الترمذي).

إن فضل الدفاع عن الأوطان والعرض والأرض عظيم؛ فلقد أخبرنا النبي (صلى الله عليه وسلمَ) أن العين التي ما نامت، والأقدام التي اغبرت في حراسة الوطن، والأرض، والعرض، محرمة على النار، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ) يقول: "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (رواه الترمذي)، ويقول: (صلى الله عليه وسلمَ): "مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ" (رواه البخاري).

وأن رباط يوم في سبيل الله أجره عظيم، حيث قال: "مَوقِفُ ساعةٍ في سَبيلِ اللهِ خَيرٌ من قِيامِ لَيلَةِ القَدْرِ عند الحَجَرِ الأسْوَدِ"، وقال: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا" (رواه البخاري)، وفي صحيح مسلم: " رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ".

لقد بشر النبي (صلى الله عليهِ وسلم) من قتل دفاعا عن أرضه، وعرضه، ووطنه بالفضل الكبير، فعن سعيد بن زيد (رضي الله عنه)، عن النبي (صَلى الله عليه وسلم) قال: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (رواه الترمذي).

وأن للشهيد دفاعا عن وطنه وعرضه وأرضه الأجر العظيم، فقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (التوبة 111) وكما قال النبي (صَلى الله عليه وسلم): "إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ " (رواه مسلم)، ولقد سئل النبي (صلى الله عليه وسلمَ) عن هؤلاء، ما بالهم لا يفتنون في قبورهم، فعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ قَالَ: "كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً" (رواه النسائي).

يأتون يوم القيامة جراحهم تثعب دما لونه لون الدم إلا أن ريحه ريح المسك، يشهد لصاحبه بالفضل والمكانة؛ فقد قال صلىَ الله عليه وسلم: "لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إِلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ"(رواه مسلم).

إن المسلم الحقيقي يكون وفياً أعظم ما يكون الوفاء لوطنه، محباً أشد ما يكون الحب له، محافظا عليه، مدافعا عنه بالغالي والنفيس، قدوة للأبناء والأجيال في حب الوطن وخدمته والحفاظ عليه والدفاع عنه والوفاء له.

                                        اللهم احفظ أوطاننا وارفع رايتها في العالمين

=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن

 لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 


google-playkhamsatmostaqltradent