خطبة بعنــوان:
تقدير المصلحة
وتنظيم المباح
للشيخ / محمد حسـن داود
ولتحميل الخطبة : word ( رابط مباشر) اضغط هنا
ولتحميل الخطبة : word (نسخة أخرى، برابط مباشر) اضغط هنا
ولتحميل الخطبة : pdf ( رابط مباشر) اضغط هنا
الموضــوع:
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة2) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بكل أحكامها
وأوامرها ونواهيها لتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، قال تعالى (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ)المائدة6) وقال عز وجل (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة 185) ومن يتأمل القران والسنة يجد أنه ما من خير
الا وجاء الامر به، وما من شر الا وجاء النهي عنه، يقول ابن مسعود (رضي الله
عنه)" إذا سمعْتَ الله (عز وجل) يقول: ( يا أيها الذين آمنوا) فأَرْعِها سَمْعك؛
فإنه خيرٌ يَأمر به، أو شَرٌّ يَنهى عنه".
ومن المقرر في الشريعة الاسلامية أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة
الخاصة، وإن تعارضت المصلحة العامة مع الخاصة قدمت المصلحة العامة على الخاصة، لما في ذلك من خير للعباد والبلاد، إذ إن
المصلحة العامة تشمل كل ما يحقق إقامة الحياة من أمور مادية ومعنوية تجلب الخير
والنفع للناس وتدفع عنهم الشر والمفاسد، وتحقق حماية الوطن واستقراره وسلامة
أراضيه.
وإن الناظر في القران الكريم، يرى كيف أعلي من مكانة المصلحة
العامة، وتقديم كل عمل ينتفع به المجتمع، ويحقق النفع العام، فقد قال تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة2) وما زال القرآن الكريم يؤكد
على مكانة ما يحقق النفع العام حتى قًرن الأمر به بالأمر
بعبادة الله (جل وعلا) وطاعته، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)الحج77)،
قال السعدي (رحمه الله) في تفسيره" يأمرهم بفعل الخير عموما، وعلق تعالى الفلاح
على هذه الأمور فقال (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون
من المكروه المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده،
فمن وفق لذلك، فله القدح المعلى، من السعادة والنجاح والفلاح ".
وكذلك من يتدبر
السنة النبوية؛ يجد كيف أعلى النبي (صلى الله عليه وسلم)، من قيمة كل عمل ينتفع به
المجتمع، ويحقق النفع العام، حتى وان قل في نظر العبد ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
(رضي الله عنه) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:
"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ
فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ " رواه مسلم) فكم هي صغيرة
- إزاحة غصن شوك - في نظر العبد ومع ذلك فكم هي عظيمة في الأجر والفضل، لما فيها من
نفع عام وخير للناس، ولما كان للصدقة الجارية نفع عام، وتحقيق خير للمجتمع، عظم النبي
(صلى الله عليه وسلم)أجرها وأعلى شأنها، فقال " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ
عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ: إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ
بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " رواه مسلم) وقال أيضا " سَبْعٌ
يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ
عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى
مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ " وفي اعمار الأرض وتقديم النفع للمجتمع يقول النبي (صلى الله عليه وسلم):
" إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةً ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ
أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا ، فَلْيَغْرِسْهَا " وفى هذا إشارة إلى اعمار
الأرض تقديما للنفع العام حتى وان لم ينتفع صاحبها بثمرتها، فمع أن هذا له من الأجر
والفضل نصيب إلا انه أيضا دأب العقلاء وشأن الحكماء،
فقد حكي أن ملكا خرج يومًا يتصيد فوجد شيخًا كبيراً يغرس شجر الزيتون فوقف عليه وقال
له: يا هذا، أنت شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد مدة طويلة من الزمن، فلم تغرسه
وأنت في هذا العمر؟ فقال: أيها الملك، زرع لنا من قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا
فيأكل ". وها هو صلى الله عليه وسلم يمدح الاشعريين بفعلهم إذ يقدمون
المصلحة العامة على الخاصة، إذ يقول صلى الله عليه وسلم " إِنَّ الأَشْعَرِيين
إِذَا أَرْمَلُوا في الْغَزْوِ أَو قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِم بالمَدِينَةِ؛ جَمَعُوا
مَا كَانَ عِندَهُم في ثَوبٍ وَاحدٍ، ثُمَّ اقتَسَمُوهُ بَيْنَهُم في إِنَاءٍ وَاحِدٍ
بالسَّويَّةِ، فَهُم مِنِّي وَأَنَا مِنهُم"
متفقٌ عَلَيْهِ)
فتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة هو
دأب الاصفياء والأتقياء، بل هو منهج الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)؛ فما أرسل
الله (سبحانه وتعالى) نبيا ولا رسولا إلا لإسعاد قومه وتحقيق الخير لهم دون مقابل
أو منفعة دنيوية، فقد قال الله (سبحانه وتعالى) على لسان نبيه نوح (عليه السلام) (وَيَا قَوْمِ لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ) هود 29) وعلى لسان نبيه هود (عليه السلام) يَا قَوْمِ لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا
تَعْقِلُونَ ) هود51) وعلى لسان نبيه شعيب (عليه السلام) ( قَالَ يَا قَوْمِ
أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا
حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ
إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) هود88)
وما أعظم ما
كان من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تقديم المصلحة العامة على المصلحة
الخاصة؛ فهذا عثمان (رضي الله عنه)، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قحط الناس
في زمان أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم. فلما كان من الغد
جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة براً وطعاماً، قال: فغدا التجار على
عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيهما على عاتقه
فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا
حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا. فدخلوا فإذا ألف وقر قد
صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا العشرة اثني
عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني. قالوا: العشرة
خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني بكل درهم
عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء
المدينة قال عبد الله بن عباس: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله (صلى الله عليه وسلم)
في منامي وهو على برذون أشهب يستعجل؛ وعليه حلة من نور؛ وبيده قضيب من نور؛ وعليه
نعلان شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك،
فقال صلى الله عليه وسلم: إني مبادر لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد
قبلها منه وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان. الرياض النضرة في
مناقب العشرة للمحب الطبري)
كما أن من صور تقديم المصلحة العامة الحفاظ
على المال العام، فالاعتداء عليه اعتداءً على حقوق المجتمع
كله، فحرمة المال العام اشد من حرمة المال الخاص، لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد
الذمم المالكة له، ولقد أنزله عمر بن الخطاب منزلة مال اليتيم الذي تجب رعايته
وتنميته وحرمة أخذه والتفريط فيه عندما قال "إني أنزلتُ نفسي مِن مال الله
منزلةَ اليتيم " والله تعالى يقول ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيرًا ﴾النساء/10)
= عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله
عنها) قالت: "دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى
زَمَنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ادَّخِرُوا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ"،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ
الْأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، وَيَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ (الْوَدَكَ: هو
دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه)، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):
"وَمَا ذَاكَ؟" قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ
ثَلَاثٍ، فَقَالَ: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ
(الدافة: هي النازلة)، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا" رواه مسلم) فلقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسلمين
في هذا العام عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام بسبب الدافة التي كانت، فلما
زال السبب عاد الأمر كما كان عليه؛ ومن هذا وغيره
يتضح لنا جليا أن لولي الأمر أن يقنن المباح أو يقيده وينظمه أو ينيب من يقوم على
ذلك لتحقيق ما فيه مصلحة البلاد والعباد، ويجب على الناس أن يتعاونوا في ذلك
فالثمرة المرجوة من هذا التقييد أو التنظيم لا شك عائدة على المجتمع كله.
أسأل الله أن يحفظ مصر وجيشها وشعبها من كل مكروه وسوء
===== كتبه =====