recent
آخر المشاركات

خطبة بعنـــــــوان: لله دَرُّكَ يا ابن عباس - للدكتـــــور/ محمد حســــن داود (16 محرم 1447هـ - 11 يوليو 2025م)

 

خطبة بعنـــــــوان:
لله دَرُّكَ يا ابن عباس
للدكتـــــور/ محمد حســــن داود

(16 محرم 1447هـ - 11 يوليو 2025م)


العناصــــــر:     
-   من فضائل الصحابة (رضي الله عنهم).

- دعاء النبي (صلى الله عليه وسلمَ) لسيدنا ابن عباس (رضي الله عنهما).

- مناظرة سيدنا ابن عباس لمن كفَّروا الناس، وكيف واجه التطرف في زمانه؟.
- التحذير من التطرف وبيان عواقبه.

الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فلقد اختار الله (عز وجل) لهذا الدين القويم نبيا كريما، وداعيا حكيما ومبلغا أمينا، ألا وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة، الحبيب النبي سيدنا محمد (صَلى الله عليه وسلم)؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة. ثم إن الله (عز وجل) اختار لسيدنا النبي (صَلى الله عليه وسلم) صحابة كراما، نصروه وأيدوه؛ فكانوا صفوة خلق الله (تعالى) بعد النبيين والمرسلين (عليهم الصلاة والسلام)، فقد قال سيدنا عبد الله بن عباس وسيدنا سفيان (رضي الله عنهما) في قول الله (سبحانه وتعالى): (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) (النمل: 59) أنهم أصحاب سيدنا محمد (صَلى الله عليه وسلم) (تفسير القرطبي).

 إن أصحاب سيدنا رسول الله (صَلى الله عليه وسلم) هم أبر الناس قلوباً، وأعمقهم علماً، وأحسنهم خلقاً؛ وإن من الصحابة الأخيار، والقرابة الاطهار: ابن عم سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ)، سيدنا عبد الله بن العباس بن عبد المطلب؛ الذي دعا له النبي (صلى الله عليه وسلمَ) حيث قال: "اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ" (رواه البخاري).

وقد نال رضي الله عنه بركة دعوة سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ)؛ فصار بحر العلم، وحبر الأمة، ورئيس المفسرين، وترجمان القرآن، وصار يلازمه الصحابة وجلة التابعين، وقد قُيل لِسيدنا الإمام طَاوُس بن كَيْسان (رضي الله عنه): لَزِمْتَ هَذَا الْغُلَامَ، يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ، وَتَرَكْتَ الْأَكَابِرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ)؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) إِذَا اختَلَفُوا فِي شَيْءٍ صَارُوا إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ". ولقد رأى سيدنا الفاروق، عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) من نباهته وذكائه وحرصه ما أبهر العقول، فصار يقرِّبه ويُدنيه، وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره، يُدخِله في مجلس أهل بدر؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مع أشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأنَّ بَعْضَهُمْ وجَدَ في نَفْسِهِ، فَقالَ: لِمَ تُدْخِلُ هذا معنَا ولَنَا أبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟! فَقالَ عُمَرُ: إنَّه مَن قدْ عَلِمْتُمْ، فَدَعَاهُ ذَاتَ يَومٍ فأدْخَلَهُ معهُمْ، فَما رُئِيتُ أنَّه دَعَانِي يَومَئذٍ إلَّا لِيُرِيَهُمْ، قالَ: ما تَقُولونَ في قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)؟ فَقالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أنْ نَحْمَدَ اللَّهَ ونَسْتَغْفِرَهُ إذَا نُصِرْنَا وفُتِحَ عَلَيْنَا، وسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شيئًا، فَقالَ لِي: أكَذَاكَ تَقُولُ يا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلتُ: لَا، قالَ: فَما تَقُولُ؟ قُلتُ: هو أجَلُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أعْلَمَهُ له، قالَ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)، وذلكَ عَلَامَةُ أجَلِكَ، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، فَقالَ عُمَرُ: ما أعْلَمُ منها إلَّا ما تَقُولُ".

وفي مناظرته مع الخوارج ومواجهته للتطرف، تجد الحكمة بعينها، والفطنة بصورها، والذكاء وسرعة البديهة في أسمى الصور؛ فعن سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اجْتَمَعُوا فِي دَارٍ، وَهُمْ سِتَّةُ آلَافٍ، أَتَيْتُ عَلِيًّا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَبْرِدْ بِالظُّهْرِ لَعَلِّي آتِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَأُكَلِّمُهُمْ. قَالَ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ. قُلْتُ: كَلَّا.

**( لله درك يا ابن عباس، إذ يبادر لتفنيد الشبهات ومناهضة الفكر المتطرف، ليقينه أن الأجيال لن تأخذ من وراء التطرف إلا التفرق والتمزق والتشتت والتشرذم وعدم الاستقرار، وأن ضريبة التطرف يدفع ثمنها المجتمع برمته دون استثناء، ومن ثمّ كان ولابد أن يسعى جاهدا لتفنيد هذا الفكر، ورد كيده، وبيان انحرافه وجهله)**.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ وَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ حُلَلِ الْيَمَنِ، قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَمِيلًا جَهِيرًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَتَيْتُهُمْ، وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي دَارِهِمْ، قَائِلُونَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَمَا هَذِهِ الْحُلَّةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا تَعِيبُونَ عَلَيَّ، لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَىَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُلَلِ، وَنَزَلَتْ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]

**(فهذا المشهد من سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) لم يكن من الكبر أو الخيلاء، بل كان رسالة صامتة تمهيدا للسان الحكمة والحجة، حتى يلفت أنظارهم إلى غياب جماليات الهدي النبوي عن عقولهم، مما يجبر هذه العقول  على التفكر والتأمل في حسن وجمال ويسر الشريعة الإسلامية، وأنه إذا جحد العقل وأنكر دعوة الإسلام إلى الحسن والجمال الظاهري، فلا شك أنه قد غاب عنه معالم الحسن الباطني والتي منها التيسير وعدم الغلو والتشدد؛ وقد كان فهمهم للدين ينطوي على أنه مظهر تعذيب للنفس وحرمانها من المباحات التي أحلها الله (تعالى) لها، مع أن النبي (صلى الله عليه وسلمَ) قد حذر مرارا من هذا الانغلاق والتشدد؛ فهو سلم التطرف والضياع والانزلاق في شباك الهلاك؛ وهذا مما يفسر لنا قول النبي (صَلى الله عليه وسلم) :"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ" (النسائي)، لهذا ولغيره لما رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟، قَالُوا: نَذَرَ أَلَّا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَجْلِسْ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ". وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "رَأَى النَّبِيُّ (صَلى الله عليه وسلم) رَجُلًا يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ قَالَ: "إِنَّ اللهَ ‌غَنِيٌّ ‌عَنْ ‌تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، مُرْهُ فَلْيَرْكَبْ" (رواه النسائي). من جانب آخر فقد بين لهم سيدنا عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) أن الجمال ليس ضد الدين، وأن الدين لا يعادي الحياة؛ فلما قيل لسيدنا النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "إنَّ الرجُلَ يُحبُّ أنْ يكونَ ثوبُهُ حسنًا، ونعلُهُ حسنةً، قال: إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ")**.

قَالُوا: فَمَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ صَحَابَةِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلمَ) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لِأُبَلِّغُكُمْ مَا يَقُولُونَ الْمُخْبَرُونَ بِمَا يَقُولُونَ فَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْوَحْيِ مِنْكُمْ، وَفِيهِمْ أُنْزِلَ: وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.

**(لله درك يا ابن عباس؛ إذ يرسل إليهم رسالة في غاية الأهمية، وهي أن فكرهم هذا ورؤيتهم هذه ومنهجهم هذا لا يمكن أن يكون فكر أمير المؤمنين (رضي الله عنه)، ولا أحد من أصحاب رسول الله (صلى اللهُ عليه وسلم) ولا رجل من المهاجرين أو الأنصار، وهم الذين جالسوا النبي (صلى الله عليه وسلمَ) وعاصروا التنزيل، وشهدوا من أسباب نزوله وتنزيله على وقائع الحياة ما لم يشهده من جاء بعدهم، فكانوا بحق أعلم هذه الأمة بالقرآن الكريم، وأبصرهم بمقاصده وغاياته، غير أنهم أعلم الناس بلسان العرب؛ ولما لم يكن منهم أحد في صفوفكم دل ذلك على انحراف منهجكم وسوء فكركم، وأن ما أنتم فيه ليس إلا هوى اتبعتموه وفكر اختلقتموه، وجهل وتنطع، والنبي (صلى الله عليه وسلمَ) قد أنذر كل متنطع بالهلاك؛ فقال: "ألَا هلكَ الْمُتَنَطِّعونَ، ألَا هلَكَ المتنطِّعونَ، ألَا هلكَ المتنطِّعونَ". قال الحافظ ابن عبد البر، في (التمهيد): "كان للخوارج تأويلات في القرآن، ومذاهب سوء مفارقة لسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان الذين أخذوا الكتاب والسنة عنهم، وتفقهوا معهم، فخالفوا في تأويلهم ومذاهبهم الصحابة والتابعين، وكفروهم" أهـ. وإن هذه الرسالة ليتردد صداها في كل زمان ومكان تحذر من ترك فهم سلف الأمة، ورفض اتباع مناهج الأئمة في فهم الكتاب والسنة)**.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَتَيْتُ قَوْمًا لَمْ أَرْ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ مُسْهِمَةٌ وجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ، كَأَنَّ أَيْدِيَهِمْ وَرُكَبَهُمْ تُثَنَّى عَلَيْهِمْ، فَمَضَى مَنْ حَضَرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنُكَلِّمَنَّهُ وَلَنَنْظُرَنَّ مَا يَقُولُ. قُلْتُ: أَخْبِرُونِي مَاذَا نَقَمْتُمْ عَلَى ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) ، وَصِهْرِهِ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: ثَلَاثًا. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالُوا: أَمَّا إِحْدَاهُنَّ فَإِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] وَمَا لِلرِّجَالِ وَمَا لِلْحَكَمِ؟ فَقُلْتُ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الْأُخْرَى فَإِنَّهُ قَاتَلَ، وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَلَئِنْ كَانَ الَّذِي قَاتَلَ كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّ سَبْيُهُمْ وَغَنِيمَتُهُمْ، وَلَئِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ قِتَالُهُمْ. قُلْتُ: هَذِهِ اثْنَتَانِ، فَمَا الثَّالِثَةُ؟ قَالَ: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ. قُلْتُ: أَعِنْدَكُمْ سِوَى هَذَا؟ قَالُوا: حَسْبُنَا هَذَا. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) مَا يُرَدُّ بِهِ قَوْلُكُمْ أَتَرْضَوْنَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا قَدْ رَدَّ حُكْمَهُ إِلَى الرِّجَالِ فِي ثَمَنِ رُبْعِ دِرْهَمٍ فِي أَرْنَبٍ، وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إِلَى قَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] فَنَشَدْتُكُمُ اللَّهَ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ أَفْضَلُ، أَمْ حُكْمُهُمْ فِي دِمَائِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ؟، وَأَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَحَكَمَ وَلَمْ يُصَيِّرْ ذَلِكَ إِلَى الرِّجَالِ، وَفِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] فَجَعَلَ اللَّهُ حُكْمَ الرِّجَالِ سُنَّةً مَأْمُونَةً، أَخَرَجْتُ عَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ ثُمَّ يَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا يُسْتَحَلُّ مِنْ غَيْرِهَا؟ فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ وَهِيَ أُمُّكُمْ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ أَمَّنَا لَقَدْ كَفَرْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] فَأَنْتُمْ تَدْورُونَ بَيْنَ ضَلَالَتَيْنِ أَيُّهُمَا صِرْتُمْ إِلَيْهَا، صِرْتُمْ إِلَى ضَلَالَةٍ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قُلْتُ: أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ مَحَا ‌اسْمَهُ ‌مِنْ ‌أَمِيرِ ‌الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا آتِيكُمْ بِمَنْ تَرْضَوْنَ، وَأُرِيكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلمَ) يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاتَبَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: " اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَوْ نَعْلَمُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ): " اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " فَوَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَمَا أَخْرَجَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ مَحَا نَفْسَهُ.

**(فانظر كيف رد ابن عباس بالحجة القاطعة والأدلة الدامغة على ادعاءاتهم الباطلة؛ لتجد درسين من أعظم الدروس؛ أولهما: أن الغلو في فهم النصوص يؤدي إلى تفسير النصوص تفسيرا متشددا يتعارض مع السمة العامة للشريعة ومقاصدها الأساسية، وإن الناظر إلى نصوص القرآن والسنة يجد بشكل واضح أنها تحذر من هذا المسلك الشائن، والفهم السقيم لنصوص الكتاب والسنة. وثانيهما: أن المسلم الحق إذا استشكل عليه شيء من القرآن أو السنة رده إلى أهل العلم والاختصاص، رده إلى العلماء الربانين، أهل الوسطية والاعتدال، دون الخوض فيه برأيه، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "‌مَنْ ‌قَالَ ‌فِي ‌الْقُرْآنِ ‌بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (رواه الترمذي وحسنه)، (نسأل الله أن يحفظ الأزهر وعلماء الأزهر.)**

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَرَجَعَ مِنَ الْقَوْمِ أَلْفَانِ، وَقُتِلَ سَائِرُهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ" (رواه الحاكم)

لله درك يا ابن عباس؛ فقد وقفت أمام الفهم السقيم لنصوص الشرع، تنظر في علله وتداوي سقمه بالحجة، فادحضت شبهاتهم، وأحكمت قبضة الأدلة على رقاب حججهم، فهدى الله من شاء منهم... لله درك يا ابن عباس، فقد سارعت إلى تفنيد الفكر المتطرف لتوقظ العقول والأفهام قبل أن تأكلها نار الجهل أو أن ينتشر الداء في الأجيال... لله درك يا ابن عباس فقد بينت مدى جهل الخوارج، وجهل من يسير على دربهم، وأشرت لنا إلى خطر الغلو والتشدد في الدين، وأنه طريق الوقوع في الضلال. وما أعظم قول وهب بن منبه محذرا من الخوارج ومن سار على دربهم وعفن فكرهم: "وَلَوْ مَكَّنَ اللهُ لَهُم مِنْ رَأْيِهِم، لَفَسَدَتِ الأَرْضُ، وَقُطِعَتِ السُّبُلُ وَالحَجُّ، وَلَعَادَ أَمْرُ الإِسْلاَمِ جَاهِلِيَّةً، وَإِذاً لَقَامَ جَمَاعَةٌ كُلٌّ مِنْهُم يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ الخِلاَفَةَ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم أَكْثَرُ مِنْ عَشْرَةِ آلاَفٍ، يُقَاتِلُ بَعْضُهُم بَعْضاً، وَيَشْهَدُ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ بِالكُفْرِ، حَتَّى يُصْبِحَ المُؤْمِنُ خَائِفاً عَلَى نَفْسِهِ وَدِيْنِهِ وَدَمِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، لاَ يَدْرِي مَعَ مَنْ يَكُوْنُ".

فالناظر في أمر التطرف يجد أن مسلكه هو مسلك الخوارج الأُول في فهمهم لكتاب الله (عز وجل) وادعائهم أنهم هم من يمتلكون العلم والفهم وأنهم هم أصحاب المنهج الصحيح ومن كان على غير نهجهم فهو على ضلال؛ إذا فإن من أعظم أسباب ضلال الخوارج ومن تبعهم، يعود إلى  منهجهم في فهم النصوص الشرعية بطريقة حرفية، وإبعادها عن مقاصدها وإخراجها عن سياقها وسِبَاقها ولِحَاقها واختلاق التفسيرات الخاطئة وتمسكهم بأقوالهم الخاطئة وافكارهم المتطرفة، وإنما هلكوا مع شدة عبادتهم واجتهادهم في الطاعات، بسبب هذا المنهج، ومن ذلك وصفهم الرسول (صلى الله عليه وسلمَ) بأنهم " أحداثُ الأسنان، سفهاءُ الأحلام" والمراد بذلك التنبيه على ضعفِ عقولهم وفكرهم، كما وصفهم بأنهم "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ" أي لا يجاوز حناجرهم، والمراد التنبيه على عدم تعمقهم في تدبر آيات الكتاب الكريم. فمع أن كثرة عبادتهم والاجتهاد فيها لا يخفى على أحد، فلقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلمَ): "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم.. " وقال ابن عباس في وصفهم: "لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود" إلا أن فساد المنهج وسقم الفكر لا يداوي علله وانحرافه التدين المظهري أو الشكلي، فلنحذر هذا الفكر السقيم، هذا المنهج الهدام الخطير ولنجتهد في مناهضته وبيان ضرره وخطره، فكل منا على عاتقه مسؤولية كبرى وواجبات عظمى في بذل أسباب حماية المجتمع من هذا الفكر وبخاصة حماية الأبناء، فقد قال الحبيب النبي (صلى اللهُ عليه وسلم): "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ" والإضاعة في الفكر، والمنهج، والأخلاق أشد خطرا، وأكثر شرا من الإضاعة في الأموال.

فاللهم ارض عن سيدنا عبد الله بن عباس وارزقنا مرافقته في الجنة
واحفظ اللهم مصر من كل مكروه وسوء

محمد حســــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  pdf جوجل درايف    -----       اضغط هنا 

 


 

google-playkhamsatmostaqltradent