خطبة بعنـــــــــوان :
لا تغلُوا في دينِكُم.. وما كان الرفقُ في
شيءٍ إلا زانه) )
(خطبة مزيدة ومتجددة)
للدكتـــــور/ محمد حســــن داود
(14 صفر 1447هـ - 8 أغسطس 2025)
العناصـــــر:
- الدين يسر ورفق ولين، لا تشدد ولا غلو ولا تكلف.
- التيسير والرفق في العبادات.
- التيسير والرفق وذم الغلو والتشدد في حياة النبي (صلى الله عليه وسلمَ).
- من عواقب التشدد والغلو.
- دعوة إلى تحقيق معاني التيسير والبعد عن الغلو والتشدد.
الموضــــــوع:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله فاطر السبع الطباق، مقسم الأرزاق، الهادي لأحسن
الأخلاق، مالك يوم التلاق، نحمده على آلاء تملأ الآفاق، ونعم تطوق القلوب
والأعناق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا
عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ
الأخْلاقِ"، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين، و بعد
فإن
من عظيم أمر الإسلام أنه دين لين ورفق ويسر في جوهره، ورسالته، وأحكامه،
وتشريعاته، وجملته، وتفصيله، يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت، يقوي ولا يضعف، يبنى
ولا يهدم، رحمة كله، إنسانية كله، تيسير كله، لا تشدد ولا غلو، لا عنت ولا تكلف
ولا حرج؛ قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:
78). وقال جل وعلا: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ) (البقرة: 185). وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28). وقال عز وجل: (لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)
(البقرة: 286). ويقول النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):
"إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ
فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ
وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ"(رواه البخاري). ويقول: "إِنَّ هَذَا
الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ". ويقول: "إِنَّ اللهَ
رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ". ويقول: "إِنَّكُمْ أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ
الْيُسْرُ" (رواه أحمد). ويقول: "إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ،
إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ " (رواه أحمد). ويقول: "إِنَّ اللهَ
(تَعَالَى) رَضِيَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْيُسْرَ، وَكَرِهَ لَهَا الْعُسْرَ"
قَالَهَا ثَلَاثًا (رواه الطبراني، في الكبير).
وإن
من يتدبر الآيات والأحاديث يرى بكل وضوح شمول الرفق والتيسير لجوانب الشريعة
الإسلامية:
فانظر
كيف أباح الإسلام الصلاة للمريض على أي وجه يتحقق له من خلاله رفع الحرج، فعَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ
فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنِ الصَّلَاةِ،
فَقَالَ: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ
تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ" (رواه البخاري).
وفي
الصيام: يقول الله (جل وعلا) (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ
مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 185).
وفى
الحج: يقول النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا"، فقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ
عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ،
لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ،
فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ
عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ" (مسلم).
حتى
في الكفارات: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: هَلَكْتُ،
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي
فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً ؟ قَالَ: لَا، قَالَ:
فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ:
فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ
جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِعَرَقٍ فِيهِ
تَمْرٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ
لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ:
اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"(رواه مسلم).
وتدبر
ترى دعوة النبي (صلى الله عليه وسلمَ) إلى تحقيق معاني التيسير والرفق في العبادة؛
وانظر حال هذا الصحابي، فكم تمنى أن يأخذ بالرفق النبوي في العبادة وأن يتمسك بهذه
القيمة الجليلة إذ يَقُولُ سَيِّدُنا عَبْدُ اللهِ بْن عَمْرِو بن العَاصِ (رَضِيَ
اللهُ عَنْهُما): قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ): "يَا
عَبْدَ اللَّهِ، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ
اللَّيْلَ؟"، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَلاَ
تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،
وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ
لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، فَإِنَّ
ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ"، فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً قَالَ: "فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ
اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَلاَ تَزِدْ عَلَيْهِ"، قُلْتُ: وَمَا
كَانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)؟ قَالَ:
"نِصْفَ الدَّهْرِ"، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ:
يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلمَ)" (رواه
البخاري).
ولقد
آخَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلمَ) بين الصحابي الجليل سيدنا سلمان الفارسي (رضي
الله عنه) والعابد الزاهد سيدنا أبي الدرداء (رضي الله عنه)، ولما زَارَ سَلْمَانُ
أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا:
مَا شَأْنُكِ؟. قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي
الدُّنْيَا. فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ،
قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ:
فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ:
نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ
اللَّيْلِ، قَالَ سَلْمَانُ: قُمْ الْآنَ، فَصَلَّيَا، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ
لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ
عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله
عليه وسلَم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسَلم:
"صَدَقَ سَلْمَانُ".
ولما
صلى سيدنا معاذ (رضي اللهُ عنه) بالناس فأطال الصلاة حتى شكاه أحدهم إلى النبي
(صلى الله عليه وسلمَ) إذ بالنبي (صَلى الله عليه وسلم) يقول له: "أفتَّان
أنت يا معاذ؟".
فالرفق
والتيسير أمر واضح جلي في حياة النبي (صلى الله عليه وسلمَ) ظاهر في أفعاله كظهوره
في أقواله، فقد قال الله (جل وعلا) في حقه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ) (الانبياء: 107) وقال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128) ويقول صَلى الله عليه وسلم: "إنَّما أنا
رَحْمةٌ مُهْداةٌ". ويقول أيضا:" بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ
السَّمْحَةِ"، ولما سمع (صَلى الله عليه وسلم)، هذا الرجل الذي دعا قائلا:
اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. قال له:
"لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا". وعن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)،
قالت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)،
بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ
أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ
النَّاسِ مِنْهُ" (متفق عليه).
بينما
الغلو والتشدد، كان أبعد ما يكون النبي (صلى الله عليه وسلمَ) منه، إذ ينكره ولا
يقره، يحذر منه، وينهي عنه، ويحث على التيسير والرفق ويمدحه وأهله، إذ يقول:
"إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ
شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ" (رواه مسلم).
وتدبر
معي: عن أَنَس بْنَ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ
رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)،
يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)،
فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ
النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي
اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ،
وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَنْتُمُ
الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ
وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ،
وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"
(رواه البخاري).
وعن
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، أَنَّ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُا)زَوْجَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)،
أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزَّى، مَرَّتْ بِهَا، وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقُلْتُ هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا
أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) "لَا تَنَامُ اللَّيْلَ خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا
تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا" (رواه
مسلم).
ولما
رأى حبلاً ممدودًا بين ساريتين، قَالَ: "مَا هَذَا؟"، قَالُوا:
لِزَيْنَبَ، تُصلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ. فأمر (صَلى
الله عليه وسلم) بإزالته. وقال: "حُلُّوه" ثُمَّ قَالَ: "لِيُصَلِّ
أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ"(متفق عليه).
وعَنْ
أَنَسٍ قَالَ: "رَأَى النَّبِيُّ (صَلى الله عليه وسلم) رَجُلًا يُهَادَى
بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى
بَيْتِ اللهِ قَالَ: "إِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ،
مُرْهُ فَلْيَرْكَبْ" (رواه النسائي).
إن في الغلو جَوْر على حقوق أخرى يجب أن تراعي
وواجبات يجب أن تؤدى، وما أصدق ما قاله الحكماء: ما رأيت إسرافاً إلا وبجانبه حق
مضيع.
والغلو بصوره ومضمونه يجعل النفوس في نفور من
العبادة؛ ومن ذلك ترى أن النبي (صلى الله عليه وسلمَ) لما بَعَث معاذاً وأبا موسى
(رضي الله عنهما) إلى اليمن أوصاهما بقوله: "يسِّرا و لا تعسِّرا وبشِّرا ولا
تنفرا". ومنه أيضا قوله صلى الله عليه وسلمَ: " يا أَيُّهَا النَّاسُ،
إنَّ مِنكُم مُنَفِّرِينَ، فمَن أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فإنَّ خَلْفَهُ
الضَّعِيفَ والكَبِيرَ وذَا الحَاجَةِ". وفي مقابل ذلك ترى قول الحسن البصري(رضي
الله عنه): "والذي نفسي بيده، لئن شئتم لأقسمن لكم أن أحب عباد الله إلى الله:
الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله".
والغلو طريق التطرف، طريق هلاك، ولذلك نهى
النبي (صلى الله عليه وسلمَ) عن الغلو في الدين، لما تصل به حقيقته، من الخروج عن
حد الاعتدال، لما يكمن في بواطنه من مجاوزة الحد المشروع إلى التكلف والغلو الغير
مشروع، لما يغيب عن جوانبه من معاني الرحمة والتيسير، لما يحويه من معاني التشدد؛
ولا شك أن التشدد هو أول طريق التطرف الذي يبدأ بنظرة العبد إلى نفسه بالكبر
والعجب في العبادة وأنه هو على الطريق المستقيم دون غيره، وأن عبادته في لباس
التشدد هي الطريق الصحيح دون غيره، كقول إبليس عن آدم (عليه السلام): (أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ) (الأعراف : 12)، مما يصل بالعبد إلى احتقار الناس واستصغارهم والتطاول
عليهم، والتعامل معهم بالغلظة، وانظر إلى حال ذي الخويصرة، الذي بلغ به الاستعلاء
أن يظن نفسه صاحب ميزان الحكم على الناس، حتى على سيدنا الحبيب النبي (صلى الله
عليه وسلمَ)، حيث قال: "يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ"، فَقَالَ لَهُ صلى الله
عليه وسلمَ: "وَيْلَك! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ
وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَمَّ: "فَإنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ
صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَأُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ
تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ
الرَّمِيَّةِ".
وهذا يفسر لنا شدة غضب النبي (صَلى الله عليه
وسلم) في موقف سيدنا معاذ (رضي الله عنه) أو غيره من المواقف التي ذكرت، ويفسر لنا قوله صلى
الله عليه وسلمَ :"يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ" (رواه النسائي)، فهو يريد أن يحمي أمته ويصونها ويقيها خطر
التشدد والغلو، يريد أن يحمي كل مسلم أن يتخذ طريقا ينتهي به إلى التطرف، يريد أن
يحمي أمته من طريق يصل به إلى الهلاك،
فعَنْ ابنِ مسعودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى اللهُ عليه
وسلمَ): "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا" (مسلم).
ولعلي
استشهد بموقف يشرح لنا ويفصل إلى أي مدى قد يصل التشدد في أمور الدين بالعبد؛ فعن
جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ
فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ
لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ
تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى
النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أُخبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ:"
قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا
شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ،
وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ
سَائِرَ جَسَدِهِ" (رواه أبو داود).
فما أحوجنا إلى أن نتمسك بقيم ديننا وهدى نبينا
فنحقق التيسير في أمور ديننا، وننبذ الغلو والتشدد من أخلاقنا وسلوكنا، فالله (عز
وجل) قال في حق حبيبنا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)
(الانبياء107)، ويقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ
فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي
الدِّينِ".
نسألك اللهم أن تحفظ مصر من كل مكروه
وسوء
وأن تجعلها أمنا أمانا سخاء رخاء يا رب
العالمين
===
كتبه ===
محمد حســــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ----- اضغط هنا