recent
آخر المشاركات

خطبة بعنــــوان: جبــــــــــر الخواطـــــــــــر وأثره في توثيق الروابط والعلاقات الاجتماعية - للشيخ / محـمـد حســــن داود (28 رجب 1445هـ - 9 فبراير 2024م)

 

خطبة بعنــــوان:
جبــــــــــر الخواطـــــــــــر
وأثره في توثيق الروابط والعلاقات الاجتماعية

للشيخ / محـمـد حســــن داود

(28 رجب 1445هـ - 9 فبراير 2024م)



العناصــــــر:       مقدمة
-  مكانة جبر الخواطر ودعوة الإسلام إليه.
- نماذج لجبر الخواطر من القرآن والسنة.
- صور لجبر الخواطر بين الناس.
- أثر جبر الخواطر على الفرد وفي توثيق الروابط والعلاقات الاجتماعية.
- دعوة إلى تحقيق معاني جبر الخواطر.

الموضوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الحج 77)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ" (رواه مسلم)، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فإن من العبادات الكريمة، والأخلاق الطيبة، والقيم النبيلة التي حث عليها الإسلام ودعانا إليها: "جبر الخواطر" فهو قيمة عالية، وعبادة جليلة، وخلق عظيم، ومبدأ كريم، من شيم الأبرار، ومن صفات المؤمنين، يدل على سمو النفس، وصفاء القلب، وسلامة الصدر، ورجاحة العقل، وطيب المنبت، وحسن السريرة حيث يجبر المسلم نفوسًا كسرت، وقلوباً فطرت، وأجساماً أرهقت، يفرج الكرب، ويقضي الحاجات، يقول سفيان الثوري (رحمه الله): "ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلي ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم".

وإن مما يعطي هذه القيمة قدرا ومكانة أن من معاني اسم الله (عز وجل) "الجبار" أنه سبحانه يجبر الخواطر؛ يجبر القلب الكسير، ويُغني عبده الفقير، ويُيسر على المعسر كل عسير، ويغفر الذنب الصغير والكبير، وقد عاتب الله (عز وجل) نبيه، (صلى الله عليه وسلمَ)، لما أعرض عن ابن أم مكتوم وكان أعمى، حيث جاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلمَ) قائلا: علمني مما علمك الله، وكان النبي (صلى الله عليه وسلمَ) منشغلاً بدعوة بعض صناديد قريش، فما أحب أن ينقطع كلامه معهم فأعرض عنه، فنزل قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى) (عبس:1- 4).

لقد تفضل الله (عز وجل) على عباده، فجبر خواطرهم، وطيب نفوسهم، فهذا سيدنا زكريا (عليه السلام) يجبر الله خاطره عندما دعاه أن يرزقه ولدا؛ يقول عز وجل حكاية عنه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا *  وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ) (مريم 4-7) ، وهذا سيدنا أيوب (عليه السلام) ، قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ )(الأنبياء 83، 84) وها هو سيدنا إبراهيم (عليه السلام) قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات100) فكانت الاجابة؛ في قوله تعالى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (الصافات101) وهذه أم سيدنا موسي (عليه السلام) حين تفطر قلبها على ولدها خوفـا عليه، رده الله (عز وجل) إليها؛ جبرًا لخاطرها، قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص 13)، وهذا يعقوب (عليه السلام)، يفارقه أحب أولاده إليه، ثم يتبعه ابنه الثاني بعد سنين، ثم تبيض عيناه من كثرة البكاء لفقدهما، فجبر الله خاطره حيث جمعه بولديه ورد إليه بصره، قال تعالى: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (يوسف 96)، ولما أُخرج نبينا (صلي الله عليه وسلم) من وطنه مكة جبر الله تعالي خاطره، وأنزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (القصص 85) أي: إلي مكة مرة أخرى، وما أعظم قوله تعالى لنبيه (صَلى الله عليه وسلم) (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ) (الضحى5)، ولقد علمتم كيف جبر خاطره بمعجزة الإسراء والمعراج، حيث رأي من آيات ربه الكبرى.

إن جبر الخواطر عبادة عظم الله شأنها، فهي جوهرة تتلألأ في عقد أخلاق الفضلاء، تزين بها الكرماء، وحاز منها سيد الأنبياء النموذج الأعلى، وقد كان من دعائه صَلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي" (رواه الترمذي)، فكان من شيمه المباركة، وأخلاقه الطيبة جبر الخواطر وتفريج الكربات وقضاء الحاجات وكيف لا؟ وقد قال فيه ربه سبحانه (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم 4) وقال سبحانه: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة128) وقال عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (الأنبياء107)، وتقول أم المؤمنين خديجة (رضي الله عنها) في حقه: "كَلاَّ، واللَّهِ ما يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَداً، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوائِبِ الحَقِّ"، ومن ذلك:

عن قُرَّةَ بن إياس، قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ، فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ، فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: "مَالِي لَا أَرَى فُلَانًا؟" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بُنَيُّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا فُلَانُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ"، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: "فَذَاكَ لَكَ" (النسائي).

وعن أنس بن مالك: " أنَّ امْرَأَةً كانَ في عَقْلِهَا شيءٌ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ لي إلَيْكَ حَاجَةً، فَقالَ: يا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ، فَخَلَا معهَا في بَعْضِ الطُّرُقِ، حتَّى فَرَغَتْ مِن حَاجَتِهَا" (رواه مسلم).

ولما كشفت الريح عن ساقَي ابن مسعود (رضي الله عنه) ضحك القوم من دقة ساقيه، فجبر النبي (صلى الله عليه وسلم) خاطره، وبيَّن مكانتَه، فقال عن ساقيه: " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ "(رواه أحمد).

وعندما جاء فقراء المهاجرين فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ؟ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ" قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولُ اللهِ قَالَ: "تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً " (رواه مسلم).

وهذا جابر بن عبد الله، لما استشهد أبوه انكسر قلبه واجتمع عليه الهم، فما لبث حتى جبر النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) بخاطره؛ فعن جَابِرِ يَقُولُ: " لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلمَ) فَقَالَ: يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا، قَالَ : أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ: مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا ، فَقَالَ : يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ : يَا رَبِّ تُحْيِينِي، فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً ، فَقَالَ الرَّبُّ (سُبْحَانَهُ) : إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ (تَعَالَى): (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)( الترمذي).

 حتى الأطفال كان لهم من جبر الخاطر مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نصيبا، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:" كانَ رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ) أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وَكانَ لي أَخٌ يُقَالُ له: أَبُو عُمَيْرٍ، قالَ: أَحْسِبُهُ، قالَ: كانَ فَطِيمًا، قالَ: فَكانَ إذَا جَاءَ رَسولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ) فَرَآهُ، قالَ: أَبَا عُمَيْرٍ ما فَعَلَ النُّغَيْرُ(طائر صغير كالعصفور) قالَ: فَكانَ يَلْعَبُ بهِ". (رواه مسلم).

بل إنه صَلى الله عليه وسلم جبر بخواطر أمته جميعا في أكثر من موضع، ومن ذلك حينما رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي"، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟" فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ (الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ)، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: " يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ " (رواه البخاري) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ووَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا " قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " بَلْ أَنْتُمْ أَصْحابِي، وَإِخْوَانُنَا لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ "، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟" فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ "(رواه مسلم).

ليس الأمر عند هذا الحد، بل شملت انسانيته صَلى الله عليه وسلم جميع الخلق، حتى جبر بخاطر هذا الطائر، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا" (رواه أبو داود)

وما كان النبي (صلى الله عليه وسلم) لينسى أبدا صنيع رجل جبر بخاطره مهما كان، فلم ينس موقف المطعم بن عدي حين أدخله في جواره يوم عودته من الطائف حزيناً، فلما كانت غزوة بدر أخبر أصحابه أن المطعم لو كان حيا ثم كلمه في الأسرى لأجابه فيهم.

وعلى هذا الخلق الطيب والقيمة النبيلة كان الصحابة (رضي الله عنهم)، فما كان كعب بن مالك ينساها لطلحة يوم أن ذهب إلى المسجد متهللًا مستبشرًا بعد أن نزلت توبته بعدما تخلف عن غزوة تبوك؛ فقام واستقبله فرِحًا لفرحه فاحتضنه واقتسم معه سعادتَه وفرحته، يقول كعب: "والله لا أنساها لطلحة".

ومن ذلك ما كان في أمر  سلمان (رضي الله عنه)، عندما كاتب سيده، وكان فقيرا لا يملك ما كاتب عليه، فقال النَّبيُّ (صَلى الله عليه وسلم) للصَّحابة" أَعِينُوا أَخَاكُمْ". يقول سلمان (رضي الله عنه): فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ، الرَّجُلُ بِثَلاثِينَ وَدِيَّةً (أي صغار النخل)، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يَعْنِي الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ، حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُ مِائَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا (أي احفر لها موضع غرسها) ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ، فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) مَعِي إِلَيْهَا : فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلمَ) بِيَدِهِ "

إن الناظر في الشريعة الإسلامية بجد أنها جاءت بجبر خواطر الناس، لا سيما الضعفاء منهم، قال تعالي: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ﴾ (الضحى 8، 9) ومن ثم فإن من جبر الخواطر المشاركةُ في سرور وفرح، أو ترح، وإجابة السائل، وتفريج الكرب، وكساء العراة، وإطعام الجوعى، ومداوة المريض، فقد قال صلى الله عليه وسلمَ "أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس وأحبُّ الأعمالِ إلى الله سُرُورٌ تُدْخِلُه على مسلم أو تَكْشِفُ عنه كُرْبَةً أو تَقْضِى عنه دَيْناً أو تَطْرُدُ عنه جُوعاً ..." (رواه الطبراني ). ومنه طيب الكلام وحسن المقال، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (البقرة83) وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ (رضي الله عنه) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ". ومنه البشاشة وطلاقة الوجه، وقد قال النبي (صَلى الله عليه وسلم): "لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أنْ تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ " (رواه مسلم). وليكنْ لأهلِكَ من جبرِ الخواطرِ حظ واسع ونصيب كبير، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ)، قَالَ: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي" (رواه الترمذي).

إن لجبر الخواطر أثرا عظيما وفضلا كبيرا، ففيه إشاعة المحبة والألفة والمودة والتكافل والتراحم بين الناس ولقد قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الحج 77) ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ" (رواه مسلم)

فمن جبر خواطر الناس جبر الله خاطره، ومن يسر على معسر يسر الله عليه، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه من كرب الاخرة، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) "مَن نَفَّسَ عن مسلم كُرْبةً مِن كُرَبِ الدُّنيا، نَفسَ الله عنه كُرْبةً من كرب يوم القيامة، ومَن يَسَّرَ على مُعْسِرٍ، يَسَّرَ الله عليه في الدُّنيا والآخِرَة، ومَن سَتَر على مسلمٍ، سَتَرَ الله عليه في الدُّنيا والآخرة، واللهُ في عَونِ العبد ما كان العبدُ في عَونِ أخيه" (رواه أبو داود والترمذي) وعن أم سلمة (رضي الله عنها) أن النبي (صَلى الله عليه وسلم) قال: " صَنائِعُ المعروفِ تَقِي مَصارعَ السُّوءِ، والصَّدقةُ خُفيًا تُطفِئُ غضَبَ الرَّبِّ، وصِلةُ الرَّحِمِ زيادةٌ في العُمُرِ، وكلُّ مَعروفٍ صَدَقةٌ، وأهلُ المعروفِ في الدُّنيا هُمْ أهلُ المعروفِ في الآخِرَةِ،" (رواه الطبراني في الأوسط) ولقد علمتم هذا الرجل الذي كان يداين الناس وكان يجبر بخواطر المعسرين، فعَنْ أَبي مسْعُودٍ البدْرِيِّ، (رضي الله عنه)، قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم): حُوسب رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجدْ لَهُ مِنَ الخَيْرِ شَيءٌ، إلاَّ أَنَّهُ كَان يُخَالِطُ النَّاس، وَكَانَ مُوسِرًا، وَكَانَ يأْمُرُ غِلْمَانَه أنْ يَتَجَاوَزُوا عَن المُعْسِر. قَالَ اللَّه تعالى: نَحْنُ أحقُّ بِذَلكَ مِنْهُ، تَجاوَزُوا عَنْهُ" (رواه مسلمٌ)، وقديماً قالوا: "من سَارَ بينَ النَّاسِ جابرًا للخَواطرِ أدركَه اللهُ في جَوفِ المَخاطرِ".

نسأل الله أن يجعلنا من أهل الخير وجبر الخواطر
وأن يحفظ مصر من كل مكروه وسوء

=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 


 

 

google-playkhamsatmostaqltradent