recent
آخر المشاركات

من دروس شهر رمضان قيمة الوقــت للشيخ / محمد حســـن داود

 

قيمة الوقــت

للشيخ / محمد حســـن داود



قبل أيام كنا نتبادل التهاني بقدوم شهر رمضان، وها هو اليوم وقد مضى أكثر من ثلثيه، فهل كان هذا درسا نعيه ونتأمله، فنغتنم بالطاعات والعبادات والقربات ما بقي في هذا الشهر من أوقات وساعات، بل ما بقي في أعمارنا من أوقات، فقد قال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر 99)، والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول في الحديث الذي رواه الطبراني: "مَنْ أَحْسَنَ فِيْمَاْ بَقِيَ ، غُفِرَ لَهُ مَاْ مَضَىْ ، وَمَنْ أَسَاْءَ فِيْمَاْ بَقِيَ ، أُخِذَ بِمَاْ مَضَىْ وَمَاْ بَقِيَ".

إن الوقت هو عمر الإنسان، هو الحياة، ومن ثم كان من أعظم النعم وأجلها؛ إذ يقول النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم)َ: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ" (رواه البخاري)

فلقد أقسم الله(عز وجل) في كتابه العزيز بالأوقات بيانا لشأنها ومكانتها، وحثا للعباد على اغتنام إقبالها قبل إدبارها، وتنبيها من الغفلة عن الانتفاع بها عملا وانتاجا وطاعة وعبادة ومسارعة الى الخيرات والقربات، قال تعالى (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (الفجر1-3) وقال سبحانه (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)(الضحى1-2) وقال جل وعلا (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر) وقال عز وجل: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) (المدثر34) وقال جل وعلا: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) (الليل1-2) في إشارة عظيمة إلى الاهتمام بالوقت والمسابقة فيه إلى الخيرات والطاعات،

كما أن المتدبر في الكون من حولنا يجد أن كل ما فيه يذكرنا بعظيم شأن الوقت ويدعونا إلى التمسك بنفعه، فطلوع الشمس وغروبها، والقمر الذي قدره الله منازل كل يوم تراه أصغر أو أكبر من اليوم الذي قبله، وحركة الكون والكواكب، والسماوات والأرض، ومرور الأعوام، وتعاقب الأجيال، وانقضاء الآجال، كل هذا يذكرنا بقيمة الزمن والوقت، ومن ذلك يقول عمر بن عبد العزيز:" إِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَعْمَلَانِ فِيكَ، فَاعْمَلْ فِيهِمَا". أي إن الليل والنهار يعملان فيك ضعفا في بدنك، وانحناء في ظهرك، وشيبا في رأسك، وضعفا في قوتك، وعشى في بصرك، وثقلا في سمعك، إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما. ولله در القائل:

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ *** إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني

لقد علم السلف الصالح أن أوقاتهم هي أعمارهم فكانوا في أشد الحرص عليها، فعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّه كَانَ يَقُولُ: "مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمِ غَرَبَتْ شَمْسُه نَقَصَ فِيهِ أَجْلِي، وَلَمْ يَزْدَدْ فِيهِ عَمَلِي" ويقول الحسن البصري: " أَدْرَكْتُ أَقْوامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ حِرْصًا مِنْكُمْ عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ"، ومن ثم فإن كانت الحكمة تقول" الوقت من ذهب"، فالحق أن نقول: "الوقت أثمن من الذهب" إذ إن الوقت هو عمر الإنسان، هو حياته، هو رأس ماله ،يقول الحسن البصري "يا ابن آدم، إنَّما أنت أيَّام، كلَّما ذهب يومٌ ذهب بعضُك".

ولقد ذكر لنا القرآن الكريم موقفين للإنسان يندم فيهما على ضياع وقته حيث لا ينفعه الندم:

الموقف الأول ساعة الاحتضار؛ حيث يستدبر الإنسان الدنيا وما فيها، ويستقبل الآخرة بما أَعد لها من عمل، ويتمنى لو أعطي مهلة من الزمن، ويؤجل إلى أجل قريب ليصلح ما أفسد ويتدارك ما فات، وفي هذا يقول الله (سبحانه وتعالى): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون8-11) ويقول أيضا (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (المؤمنون 99- 100)، نعم لا شك أن العبد في هذا الوقت يتذكر أوقاته وحسناته وسيئاته ويتمنى لو زاد العمر دقائق يزيد بها أعماله عملا صالحا وإن قل، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَرَّ بِقَبْرٍ، فَقَالَ: "مَنْ صَاحِبُ هَذَا الْقَبْرِ؟ " فَقَالُوا: فُلانٌ ، فَقَالَ: " رَكْعَتَانِ أَحَبُّ إِلَى هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ "(رواه الطبراني) 

والموقف الثاني: يكون في الآخرة، يوم توفى كل نفس ما عملت، وتجزى بما كسبت ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هنالك يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى الحياة الدنيا ليجتهدوا في كل عمل صالح، ولكن كيف وقد انتهى زمن العمل وجاء زمن الجزاء، يقول تعالى: ( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ) (فاطر37).

إن بركة الأوقات في اغتنامها بصالح الأعمال، فعن أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ، قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ": (رواه الترمذي وقال حسن صحيح)

 فاللبيب الفطن يعلم أن أنفاسه معدودة، وساعاته في الدنيا محدودة، وان عمره هو رأس ماله، ولا يمكن أن يَسعد إذا أهمل هذا العمر، فيغتنمه في الطاعات ويزينه بفعل الصالحات، فقد قال الله (سبحانه وتعالى) (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (ال عمران 133)،ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم) :"لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمْرهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عَلِمهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ" (رواه الطبراني)

وانظروا معي إلى هذا الرجل الذي جاء يسأل النبي  (صلى الله عليه وسلم): فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فقَالَ له النبي (صلى الله عليه وسلم): "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا". قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ" (رواه البخاري) فلقد سأل الرجل عن الوقت والزمن الذي تقوم فيه الساعة، وأجابه رسول الله عن عمله في وقته وزمنه، فالزمن سيمر ولكن ماذا عملت فيه، والساعة آتية لا ريب فيها ولكن ماذا أعددت لها، ولما سأله رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ مرافقته في الجنة فدله على اغتنام أيامه وأوقاته، فقال " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ " ويتضح لنا أثر هذا الحرص على الوقت فيما جاء عن بُرَيْدَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) " سَمِعَ خَشْخَشَةً أَمَامَهُ ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : بِلالٌ ، فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ : بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَحْدَثْتُ إِلا تَوَضَّأْتُ ، وَلا تَوَضَّأْتُ إِلا رَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ أُصَلِّيهُمَا ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِهَا " (رواه ابن حبان) .

ان الأيام تتسارع، والأزمنة تتلاحق والأوقات تتقارب والصحة يفجؤها السقم، والقوة يعتريها الوهن، والشباب يعقبه الهرم، ولقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابُكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتُكَ قَبْلَ سِقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغُكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتُكَ قَبْلَ مَوْتِكَ "

=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 


google-playkhamsatmostaqltradent