خطبة بعنـــــــوان :
من سنن الله تعالى الكونية
إجراء المسببات على الأسباب
للشيـخ / محمد حســــــن داود
من سنن الله تعالى الكونية
إجراء المسببات على الأسباب
للشيـخ / محمد حســــــن داود
العناصـــــر:
- من سنن الله في الكون إجراء المسببات على الأسباب .
- دعوة القران والسنة إلى الأخذ بالأسباب .
- الأخذ بالأسباب من منهج الأنبياء عليهم السلام .
- الأخذ بالأسباب منهج الصحابة والتابعين .
- الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله .
- الأخذ بالأسباب،أثره ودعوة إلى تحقيقه .
- من سنن الله في الكون إجراء المسببات على الأسباب .
- دعوة القران والسنة إلى الأخذ بالأسباب .
- الأخذ بالأسباب من منهج الأنبياء عليهم السلام .
- الأخذ بالأسباب منهج الصحابة والتابعين .
- الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله .
- الأخذ بالأسباب،أثره ودعوة إلى تحقيقه .
الموضــــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه
العزيز ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ ) التوبة 105) . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا
ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ
لِمَا خُلِقَ لَهُ " متفق عليه ) . اللهم
صل وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
.
إن من سنن الله جل وعلا في الكون:
إجراء المسببات على الأسباب؛ إذ خلق الله سبحانه وتعالى الأسباب ومسبَّباتها؛ أما ترى أن البذر سبب للزرع، وشرب الماء سبب للري، والأكل
سبب للشِّبَع، والجد والاجتهاد سبب للنجاح، والكسل والتواني سبب للفشل... الخ.
ومن ثم فقد وجه القران الكريم، وكذلك السنة النبوية إلي الأخذ
بالأسباب في كل الشئون والأمور؛ فقال الله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) التوبة105)، وقال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ) (الملك:15)(3) وقال سبحانه (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) الإسراء19). وعَنْ عِمْرَانَ
بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ"، قَالَ: قِيلَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟
، قَالَ: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" رواه مسلم ) وفي رواية
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اعْمَلُوا
فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ "متفق عليه)
وإذا تدبرننا حال الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام لوجدنا أن الأخذ بالأسباب، من نهجهم وسنتهم؛ فانظر كيف كان فعل سيدنا
يوسف عليه السلام في السبع الرخاء للسبع الشداد، وكيف اخذ بالأسباب للنجاة من مجاعة
مهلكة وخطر محدق، قال تعالى ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا
أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ
* قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ
* وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ
بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ
يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ * قَالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا
مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ
مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ يوسف43-49) وهذا
سيدنا نوح عليه السلام أمره ربه تبارك وتعالى بإعداد سفينة عملاقة، وأن يحمل فيها من
كل زوجين اثنين، في توجيه الهي إلى الأخذ بالأسباب، قال تعالى (وَأوحِيَ إِلى نوحٍ
أَنَّهُ لَن يُؤمِنَ مِن قَومِكَ إِلّا مَن قَد آمَنَ فَلا تَبتَئِس بِما كانوا يَفعَلونَ
* وَاصنَعِ الفُلكَ بِأَعيُنِنا وَوَحيِنا وَلا تُخاطِبني فِي الَّذينَ ظَلَموا إِنَّهُم
مُغرَقونَ * وَيَصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيهِ مَلَأٌ مِن قَومِهِ سَخِروا
مِنهُ قالَ إِن تَسخَروا مِنّا فَإِنّا نَسخَرُ مِنكُم كَما تَسخَرونَ * فَسَوفَ تَعلَمونَ
مَن يَأتيهِ عَذابٌ يُخزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيهِ عَذابٌ مُقيمٌ * حَتّى إِذا جاءَ أَمرُنا
وَفارَ التَّنّورُ قُلنَا احمِل فيها مِن كُلٍّ زَوجَينِ اثنَينِ وَأَهلَكَ إِلّا مَن
سَبَقَ عَلَيهِ القَولُ وَمَن آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلّا قَليلٌ * وَقالَ اركَبوا
فيها بِسمِ اللَّـهِ مَجراها وَمُرساها إِنَّ رَبّي لَغَفورٌ رَحيمٌ ﴾هود 36 – 41)
و تدبر ما كان من سيدنا أيوب u، حينما اخذ بالأسباب فسأل الله سبحانه وتعالى الشفاء، وحينما اخذ بالأسباب
مرة ثانية فضرب الأرض برجله امتثالا لأمر الله تعالى فنبع الماء فأغتسل وشرب، فذهب
جميع ما كان في بدنه من الأذى وما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا،
قال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ
بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ) ص
41-42) وهنا قد يقول العقل: أيعقل أن رجلا يضرب برجله الأرض فينبع الماء من تحت قدمه؟
والأشد من ذلك أن به من المرض والضعف ما به، فكيف ذلك، ولو كان صحيحا ما نبع الماء
تحت قدمه بضربه الأرض بل ولو كانوا مائة رجل أو أكثر؟ ليس ذلك فحسب بل إن باغتساله
عليه السلام بالماء و بشربه منه ذهب المرض، فهل بالاغتسال تذهب الأمراض؟ إنها الأسباب
إذ لا ينبغي تركها حتى وان كانت في نظرنا ضعيفة. وانظر
حال السيدة مريم إذ جاءها المخاض ( طلق الولادة ) ومع ذلك أمرها الله بهز النخلة والأخذ
بالأسباب، مع أنك لو جئت بعشر رجال ذوي جلد وقوة ما استطاعوا هزها من جزعها هزا يتساقط
على أثره الرطب، ولكنها الأسباب قال تعالى (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ
قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا* فَنَادَاهَا
مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا* وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي
وَقَرِّي عَيْنًا ) مريم23- 26)
تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي الأَمْرِ
كُلِّهِ ***
وَلا تَرْغَبَنْ فِي العَجْزِ يَوْمًا عَنِ الطَّلَبْ
لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَـــــــــــــــالَ لِمَرْيَمٍ *** وَهُزِّي إِلَيْـــــــكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَب
وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزَّةٍ ***جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُــــــــــــلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ
لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَـــــــــــــــالَ لِمَرْيَمٍ *** وَهُزِّي إِلَيْـــــــكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَب
وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزَّةٍ ***جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُــــــــــــلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبْ
والمتدبر لحال النبي صلى الله عليه وسلم
يجده لم يترك الأخذ بالأسباب في أموره جميعها؛ ومن اجل الشواهد على ذلك ما كان في
أمر الهجرة إلى المدينة، إذ يذهب صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر رضي الله عنه في وقت
شديد الحر حين يستريح الناس في بيوتهم حتى لا يراه احد، فيأمر أبا بكر أن يخرج من عنده
حتى لا ينتشر الأمر ويظل طي الكتمان، بل لما حدثه عن الهجرة لم يفصح إلا عن الأمر بالهجرة
فقط، وكتم تفاصيل الأمر، فكان جواب أبا بكر رضي الله عنه: " الصحبة يا رسول
الله"، كما جهز النبي صلى الله عليه وسلم الوسائل الضرورية للسفر قبل الموعد بزمن
كاف، كما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توزيع الأدوار والاختصاصات، فكان أبو بكر
الصديق رضي الله عنه يرافق الرسول ويعاونه ويساعده، وهذا على بن أبي طالب رضي الله
عنه ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم للتمويه ولرد الأمانات والودائع لأصحابها،
و عبد الله بن أبي بكر لنقل أخبار قريش إلى النبي وصاحبه، وهذه أسماء بت أبى بكر تحمل
الغذاء إلى النبي وصاحبه، وهذا عامر بن فهيرة يسلك بقطيعه طريق الغار، ليزيل آثار الأقدام
المؤدية إليه، ثم يسقي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من لبن غنمه، كما استعان رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط ألليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى
المدينة باعتباره خبيرا ماهرا بالطرق.
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمد
على الأسباب تاركا التوكل على الله جل وعلا، حاشا لله، إنما كان يعلم أن الأسباب وحدها
لا تضر ولا تنفع ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب، وإنما الأخذ بها من صدق
التوكل على الله جل وعلا، فقد قال تعالى (وتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الفرقان58) كما أن فقدان التوكل ينافي أصل الإيمان، قال تعالى(
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )المائدة23) وقال تعالى( إِنْ
كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ )
يونس84) فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب مع صدق التوكل على الله جل وعلا؛ فمع ما كان منه من أمر الهجرة أخذا بالأسباب؛ وكان قد استكن الغار ومعه صاحبه، واشتد
طلب المشركون لهما فتعقّبوا كل مكان يمكن أن يختبئا فيه، إلى أن وصلوا إلى باب الغار،
فاشتد الأمر على أبي بكر، كما جاء عن أنس أن أبا بكر قال " نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ ،
فَقَالَ "يَا أَبَا بَكْرٍ : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا
" قال تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا
تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ
اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )التوبة40).
وهذا مما وجه النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه إليه وحثهم عليه للوصول إلى حياة كريمة مشمسة بالخير والتقدم والرقى حتى في
اقل الأشياء فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَعْقِلُهَا
وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ ( يعنى ناقته، وكأنه كان يفهم أن الأخذ
بالأسباب ينافي التوكل على الله تعالى، فوجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مباشرة
الأسباب أمر مطلوب ولا ينافي بحال من الأحوال التوكل على الله تعالى ما صدقت النية
في الأخذ بالأسباب) فقال له صلى الله عليه وسلم " اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ
". وعَنِ ابْنِ أَبِي خُزَامَةَ ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رُقًى
نَسْتَرْقِيهَا، وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا، هَلْ تَرُدُّ
مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ" هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ" رواه
الترمذي) ولما جاء رجل من الأنصار يسأل
النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم:" أَمَا فِي بَيْتِكَ
شَيْءٌ؟ " قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ
نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ: "ائْتِنِي بِهِمَا"، قَالَ: فَأَتَاهُ
بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِيَدِهِ،
وَقَالَ: "مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟" قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ،
قَالَ: "مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا"، قَالَ
رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ
وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: "اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ
إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ"، فَأَتَاهُ بِهِ،
فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عُودًا بِيَدِهِ،
ثُمَّ قَالَ لَهُ: "اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا"، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ
دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ
الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"رواه أبو داود،وحسنه
المنذري) وهذا
كان أيضا منهج الصحابة والتابعين، فلما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض الكسالى
قابعين في المسجد ينتظرون الرزق قال:" لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم
ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضةً، وإن الله تعالى يقول(فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)الجمعة:10) وعن ابْن صُبَيْحٍ قال:"
شكا رجل إلى الحسن البصري الْجُدُوبَةَ؛ فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر،
فقال له: استغفر الله. وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال له: استغفر الله.
وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من
عندي شيئا، إن الله تعالى يقول في سورة" نوح" (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)
نوح 10-12) تفسير القرطبي، مرعاة المفاتيح؛ للمباركفوري، عمدة القاري؛ للعيني)
فلقد دلهم الحسن رحمه الله على الاستغفار أخذا بالأسباب، باعتبار أن الاستغفار أحد
أسباب الخير كما في الآية، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " منْ لَزِم الاسْتِغْفَار،
جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجًا، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، وَرَزَقَهُ
مِنْ حيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ" رواه أبو داود).
إن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على
الله جل وعلا، بل إن الأخذ بالأسباب هو من عماد التوكل على الله تعالى، فالسعي في الأسباب
بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به، فلا يُترك الأخذ بالأسباب ولا يُترك
التوكل على الله؛فقد قال الله تعالى (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الشورى 36) "وقال سبحانه (إنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
)الانفال2) قال سهل بن عبد الله ألتستري" من طعن في الحركة (يعني: في السعي والكسب
والأخذ بالأسباب ) فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل، فقد طعن في الإيمان، فالتوكل
حال النبي صلى الله عليه وسلم والكسب سنته، فمن عمل على حاله، فلا يتركن سنته.
فما أحوجنا
إلى تحقيق معاني التوكل على الله جل وعلا بالأخذ بالأسباب فهو باب إلى الخير، والفضل، والتقدم،
والرقي؛ ولقد قال الله جل وعلا ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ آل عمران
159) وقال سبحانه ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ﴾النحل98، 99) وقال عز وجل (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)
الطلاق 3) وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:" لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ
عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو
خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا " مستدرك الحاكم) يروى أن شقيقاً البلخي، ذهب في
رحلة تجارية، وقبل سفره ودع صديقه إبراهيم بن أدهم، حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة
طويلة، ولكن لم يمض إلا أيام قليلة حتى عاد شقيق ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجباً:
ما الذي عجّل بعودتك؟ قال شقيق: رأيت في سفري عجباً، فعدلت عن الرحلة، قال إبراهيم:
خيراً ماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائراً كسيحاً
أعمى، وعجبت وقلت في نفسي: كيف يعيش هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لا يبصر
ولا يتحرك؟ ولم ألبث إلا قليلاً حتى أقبل طائر آخر يحمل له العظام في اليوم مرات حتى
يكتفي، فقلت: إن الذي رزق هذا الطائر في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي،
فقال إبراهيم: عجباً لك يا شقيق، ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي
يعيش على معونة غيره، ولم ترض أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه وعلى غيره من
العميان والمقعدين؟ أما علمت أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟ .
اللهم أهدنا لأحسن
الأخلاق إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت،
واصرف عنا سيئها إنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت،
وأحفظ مصر وشعبها من كل مكروه وسوء .
واصرف عنا سيئها إنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت،
وأحفظ مصر وشعبها من كل مكروه وسوء .
===== كتبه =====
محمد حســــــن داود
إمام وخطيب ومدرس
محمد حســــــن داود
إمام وخطيب ومدرس