recent
آخر المشاركات

خطبة بعنـــوان : الإمـــام الشافعي ودوره التجديدي في عصره - للشيـخ / محمد حســـن داود

 خطبة بعنـــــوان :

الإمـــام الشافعـــــــي 
ودوره التجديدي في عصره

للشيـخ / محمد حســـن داود

 لتحميل الخطبة : word  ( رابط مباشر) اضغط هنا
ولتحميل الخطبة : word  (نسخة أخرى، برابط مباشر)اضغط هنا
ولتحميل الخطبة : pdf    ( رابط مباشر) اضغط هنا
ولتحميل الخطبة : word  ( جوجل درايف) اضغط هنا
ولتحميل الخطبة : word  (نسخة أخرى، جوجل درايف)اضغط هنا
ولتحميل الخطبة : pdf    ( جوجل درايف) اضغط هنا

العناصر :
- الإمام الشافعي، نشأته وطلبه للعلم.
- الإمام الشافعي، عبادته وأخلاقه.
- ذكاء الإمام الشافعي وفطنته.
- الإمام لشافعي، ودوره التجديدي في عصره.

الموضـوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة 11)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا " رواه أبو داود) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فإن سير منارات الهدى ومصابيح الدجى قدوة صالحةٌ طيبة لعموم الأمة، وفي هذه الدقائق المعدودة نتناول سيرة حياة إمام كبير، ننظر في مناقبه وفضائله ومآثره ودوره التجديدي في عصره، إنه الامام الشافعي؛ الذي قال عنه الإمام أحمد (رحمهما الله): "كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل ترى لهذين من عوض أو هل ترى لهما من خلف". فلله در القائل:

قد مات قوم وما ماتت فضائلهم *** وعاش قوم وهم في الناس أموات

عاش رحمه الله يتيما، فما رده يتمه عن التفقه في الدين، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): " مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" كما عالج رحمه الله فقرا، فلم يمنعه أن يكون من أعلام المسلمين، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالحِيتَانُ فِي جَوْفِ المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ".  فما من عالم إلا وأخذ من علمه رحمه الله، ولقد قال الله (جل وعلا): (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة 11). فلقد طلب رحمه الله العلم في طفولته، وشغف به في وقت كان أقرانه يميلون للهو واللعب، اذ يقول: "جَعَلْتُ لَذَّتِي فِي هَذَا الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ، حَتَّى رَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهُ مَا رَزَقَ". فكان من شدة فقره يبل إصبعه السبابة بريقه ويكتب بها ويمررها على كفه اليسرى؛ فرآه الإمام مالك فظن أنه يلهو ويلعب في مجلس العلم ؛ فسأله عن ذلك؟ فكان الجواب: لا أملك ما أشتري به ألواح الكتابة فأكتب كل حديث أسمعه على كف يدي اليسرى ثم أمسحه وأكتب الذي بعده؛ فتعجب الإمام مالك وقال له أتحفظ هكذا كيف ذلك ؟ فقال الشافعي نعم وأحفظها جميعًا وإن شئت أسمعتك كل حديثك اليوم ، فقال الإمام مالك في تعجبٍ وتستطيع أن تفعل ذلك ؟ أجاب الشافعي نعم أفعل ، فقال له الإمام مالك إذن أسمعني . فأخذ الشافعي يحدث ويقول: حدثنا مالك عن فلان عن فلان عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) ويذكر الحديث ثم الحديث الذي يليه ، حتى ساق له كل حديثًا ذكره ما ترك حديثًا ، فانبهر الإمام مالك من شدة حفظه وذكائه  فقربه الإمام مالك منه وجعله في الصفوف الأولى .

شب رحمه الله فكان من العباد الزهاد، فقد جاء عن الربيع بن سليمان أنه قال:" كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب الحديث، والثلث الثاني: يصلي، والثلث الثالث: ينام". وعن الربيع بن سليمان المرادي المصري أنه قال: "كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين مرة، كل ذلك في صلاة" وقال الحسين بن علي الكرابيسي: "بتُّ مع الشافعي ثمانين ليلة، كان يصلي نحو ثلث الليل، لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوّذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المسلمين، وكأنما جُمع له الرجاءُ والرهبةُ".

كما كان معروفاً بالكرم والسخاء، ومن ذلك يقول الربيع بن سليمان: "تزوجت، فسألني الشافعي: "كم أصدقتها؟"، فقلت: "ثلاثين ديناراً"، فقال: "كم أعطيتها؟"، قلت: "ستة دنانير"، فصعد داره، وأرسل إلي بصرَّة فيها أربعة وعشرون ديناراً". وعن الحميدي قال: "قدم الشافعي رحمه الله من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل، فضرب خباءه في موضع خارجاً من مكة، فكان الناس يأتونه، فما برح حتى ذهبت كلها".

 كما كان رحمه الله كثير النصح  فقد كان يقول:

دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَـــــــــاءُ *** وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ
وَلا تَجْزَعْ لِحَادِثة الليالـــــــي *** فما لحوادثِ الدنيا بقــــــــاءُ
وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً *** وشيمتكَ السماحةُ والوفـــاء
وإنْ كثرتْ عيوبكَ في البرايا *** وسَركَ أَنْ يَكُونَ لَها غِطَــاءُ
تَسَتَّرْ بِالسَّخَاء فَكُـــــــلُّ عَيْب *** يغطيه كما قيلَ السَّخــــــــاءُ

كما كان يقول:

إذا شئتَ أن تحيا سليماً مــــن الأذى *** ودينك موفورٌ وعرضك صيــــنُ
لسانـــــــــُك لا تذكرْ به عورةَ امرئٍ *** فكلُّك عـــــــوراتٌ وللناس ألسنُ
وعينُك إن أبدت إليـــــــــــــك مَعايباً *** فصُنْها وقلْ يا عينُ للناس أعينُ
وعاشر بمعروفٍ وسامح من اعتدى*** ودافعْ ولكنْ بالتي هي أحســــنُ

وفي تقوى الله واعتماده على الرزاق يقول

عليك بتقوى الله ان كنت غافلا *** يأتيك بالارزاق مــــن حيث لاتدري
فكيف تخاف الفقـــر والله رازقا *** فقد رزق الطير والحوت في البحر

وما اعظم صبره في مرضه؛ فعن يونس بن عبد الأعلى قال: ما رأيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي".

كما كان رحمه الله مخلصا في طلب العلم وتعليمه، وفي هذا يقول: "وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ أَعْلَمُهُ تَعَلَّمُهُ النَّاسُ أُوَجَرُ عَلَيْهِ، وَلا يَحْمَدُونِي". وعن الربيع بن سليمان أنه قال: "سمعت الشافعي، ودخلت عليه وهو مريض، فذكر ما وضع من كتبه، فقال: لوددت أن الخلق تعلمه، ولم ينسب إلي منه شيء أبداً".

ورغم قوة حجته، وحضور أدلته، وبلاغته وفصاحته؛ الا انه كان متواضعا وما كان يحب الانتصار لنفسه، فكان يقول: "وَاللَّهِ، مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ". يقول يُوْنُسُ الصَّدَفِيُّ: "مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْماً فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوْسَى، أَلاَ يَسْتَقيمُ أَنْ نَكُوْنَ إِخْوَاناً وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ".، ولقد جاء أن يونس بن عبد اﻷعلى أحد طلاب اﻹمام الشافعي إختلف معه في مسألة أثناء إلقائه درساً في المسجد فقام يونس بن عبد اﻷعلى غاضباً، وترك الدرس، وذهب إلى بيته فلما أقبل الليل ، سمع يونس صوت طرق على باب منزله فقال يونس من بالباب ؟قال الطارق محمد بن إدريس. قال يونس فتفكرت في كل من كان اسمه محمد بن إدريس إلا الشافعي فلما فتحت الباب ، فوجئت به، فقال اﻹمام الشافعي يا يونس تجمعنا مئات المسائل ، وتفرقنا مسألة ، وأخيراً لا تحاول الإنتصار في كل الإختلافات ، فأحيانا كسب القلوب أولى من كسب المواقف يا يونس، لا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها، فربما تحتاجها للعودة يوما ما، إكره الخطأ دائمًا ولكن لا تكره المُخطئ، وأبغض بكل قلبك المعصية لكن سامح وارحم العاصي، يا يونس، انتقد القول لكن احترم لقائل، فإن مهمتنا هي أن نقضي على المرض لا على المرضى ".

لقد كان رحمه الله ذكيا فطنا سريع البديهة متمكنا في دحض الشبهات؛ ففي يوم من الأيام، ذهب أحد المحاورين المجادلين إليه، وقال له: كيف يكون إبليس مخلوقا من النار، ويعذبه الله بالنار؟ ففكر الشافعي قليلاً، ثم أحضر قطعة من الطين الجاف، وقذف بها الرجل، فظهرت على وجهه علامات الألم والغضب. فقال له الشافعي: هل أوجعتك؟ قال: نعم، أوجعتني فقال الشافعي: كيف تكون مخلوقا من الطين ويوجعك الطين؟ فلم يرد الرجل وفهم ما قصده الإمام الشافعي، وأدرك أن الشيطان كذلك: خلقه الله من نار، وسوف يعذبه بالنار. وذات يوم جاء بعض الناس إليه، وطلبوا منه أن يذكر لهم دليلاً على وجود الله عز وجل. ففكر لحظة، ثم قال لهم: الدليل هو ورقة التوت. فتعجب الناس من هذه الإجابة، وتساءلوا: كيف تكون ورقة التوت دليلاً على وجود الله؟ فقال الإمام الشافعي (رحمه الله): "ورقة التوت طعمها واحد؛ لكن إذا أكلها دود القز أخرج حريرا، وإذا أكلها النحل أخرج عسلاً، وإذا أكلها الظبي أخرج المسك ذا الرائحة الطيبة، فمن الذي وحد الأصل وعدد المخارج؟ "إنه الله سبحانه وتعالى خالق الكون العظيم!

لقد كان رحمه الله نافذ النظر، دقيق الاستنباط، قوي الحجة، فصيح اللسان، وقد بعث إليه الإمام أبو يوسف - صاحب أبي حنيفة (رحمه الله) - قائلا: صَنِّف الكتب؛ فإنك أولى مَن يصنِّف في هذا الزمان، وقال عنه الإمام أحمد (رحمه الله): ما أحدٌ مسَّ بيده محبرة ولا قلمًا- بعد الشافعي- إلا وللشافعي في رقبته منّة". فقد جمع بين علوم التفسير، والحديث، والفقه، وأصوله، والنحو ، والشعر، والعروض، قال الكرابيسي: "ما رأيت مجلساً قط أنبل من مجلس الشافعي، كان يحضره أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل الشعر، وكان يأتيه كبار أهل اللغة والشعر، فكلٌّ يتكلم فيه".

لقد حباه اللهُ تعالى عقلًا واعيًا ، فلم يكن مقلدًا، ولم يقف عند حدود النص؛ بل نظر إلى مراميه ومقاصده، اذ راعى في منهجه التجديدي الزمان، والمكان، وأحوال الناس، وعاداتهم، وطبائعهم. بنى مذهبه على فهم مقاصد كتاب الله تعالى وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وفهم الواقع، ولذلك مرَّ مذهبه بمراحل؛ حيث اختلفت بعض آرائه الفقهية في مصر فيما عرف بالمذهب الجديد عنها في العراق فيما عرف بالمذهب القديم؛ مراعاة لظروف البيئة وأحوال الناس.

ورغم هذا الذي كان من حياته، فقد قال المزني : "دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: يا أبا عبد الله كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلًا ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنيَّة شاربًا، وعلى الله واردًا، ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:

إليك إلـهَ الخلـق أرفــع رغبتـــــــي *** وإن كنتُ يا ذا المن والجود مجرماً
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِـــــي *** جَعَلْتُ رَجَائِــــــي دُوْنَ عَفْوِكَ سُلَّمًا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمّــــــــــــــَا قَرَنْتُهُ *** بِعَفْوِكَ رَبِّــــــــي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ *** تَجُــــــــــــــــودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
فإنْ تنتقِمْ منـــــــــــي فلستُ بآيِسٍ *** ولـــو دخلَتْ نفسي بجُرمي جهنَّماً
ولولاك لم يقوى بإبليسَ عابـــــــدٌ *** فكيف وقـــــــد أغوى صفيَّكَ آدماً؟
وإني لآتي الذنبَ أعرفُ قـــــــدْرَهُ *** وأعلمُ أن الله يعفــــــــــــــو ترحُّمَاً

 (رحم الله الشافعي، وجزاه عنا كل خير، وعلمنا ما ينفعنا، ونفعنا بما علمنا، وحفظ مصر وجيشها وشعبها من كل مكروه وسوء)

===== كتبه =====
محمد حســــــن داود 
إمام وخطيب ومدرس

google-playkhamsatmostaqltradent