recent
آخر المشاركات

خطبة الجمعة القادمة: حق الوطن والمشاركة في بنائه - للشيخ / محمد حســـن داود(10صفر 1443هـ - 17سبتمبر 2021م)

  

خطبة بعنوان:

حق الوطن والمشاركة في بنائه

للشيخ / محمد حســـن داود

10صفر 1443هـ - 17سبتمبر 2021م


الموضوع:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

إن من أعظم النعم وأجلها، أن يكون للإنسان وطن يعيش تحت ظلاله، ويتنفس هواءه، يجد فيه معنى السكينة، وحقيقة الطمأنينة، فيه تتصل أمجاد الأجداد بالأحفاد، وتتلاحم قلوب الأهل والأحباب، فالوطن نعمة جليلة ومنة عظيمة؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر في كتاب الله (جل وعلا)، فقد قرن خروج الجسد من الوطن بخروج الروح من الجسد، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) (النساء66)؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فليتدبر جيدا قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها " (رواه البخاري في الأدب المفرد) من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر إلى حال من فقدها، وليتدبر قيمتها في ميزان من حرمها؛ فهي مهد الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، فكم زلزلت بحب الأوطان مكامن وجدان، وأطلق حبها قرائح شعراء، وسكبت في حبها محابر أدباء، وضحى من أجلها بالغالي والنفيس الأوفياء، وإننا لنجد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسمى الأمثلة لحب الوطن، وترجمته في الواقع عملا وبناء، حماية ودفاعا وتضحية، فلقد وجه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى إجادة الانتماء للوطن، وحسن الولاء والانتماء له، وإخلاص الوفاء له، داعيا إلى ترجمة هذا الحب إلي عمل وجد، من أجل الوطن، وحفاظ عليه، ودفاع عنه؛ إذ يلقى درسا بليغا يقرع كل الآذان، ويتردد صداه في كل زمان ومكان, وذلك عندما خرج مهاجرا، ووصل أطراف مكة، التفت إليها، وقال "وَاللهِ إِنَّي أَعْلَمُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبَّهَا إِلَى اللهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" وفي رِوَاية "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِليَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ"، بل انظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم، حينما وطأت قدمه وطنه الثاني (المدينة) إذ يتوجه إلى الله داعيا أن يحبب إليهم المدينة كما حبب إليهم مكة، كما في (صحيح البخاري) عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ ". فلقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعيش هذا الحب والانتماء الوطني بكل وجدانه وجوارحه؛ فقد جاء في (البخاري ومسلم) عن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها): أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقول في الرقية: " باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَى سقيمُنا بإذن ربنا "، وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، انه قَالَ" كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ - أَيْ أَسْرَعَ بِهَا - وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا "، وما أعظم ما جاء عن انس (رضي الله عنه) في حب النبي (صلى الله عليه وسلم) لوطنه ودفاعه عنه، انه رضي الله عنه قال " وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ يَقُولُ : لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ ، فَقَالَ : لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا . أَوْ : إِنَّهُ لَبَحْرٌ " ولقد اثر، أن العرب كانت إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزْلةٍ أو زكام أو صُداع "(الرسائل للجاحظ) ولقد قيل لأعرابي: كيف تصنعون في البادية إذا اشتد القيظ حين ينتعل كل شيء ظله؟ قال "يمشي أحدنا ميلا، فيرفض عرقا، ثم ينصب عصاه، ويلقي عليها كساه، ويجلس في فيه يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى" أي حب هذا؟ حتى يقول(أنا في وطني بهذه الحالة ملك مثل كسرى في إيوانه) يا له من حب، وياله من وفاء، وياله من انتماء، فللمولى سبحانه الحمد على نعمة الوطن، هذه النعمة التي لا تقدر بالأموال، ولا تساوم بالأرواح، بل تبذل الأموال لأجلها وترخص الأرواح في سبيل الدفاع عنها، فالمخلصون يؤمنون بعظم حق الوطن وبضرورة تقديم كل ما بوسعهم، وبأقصى جهدهم، وبأعظم طاقتهم، لخدمة الوطن وبنائه، وحمايته، والدفاع عنه، والتضحية بالمال والنفس في سبيل أمنه واستقراره.

إن حب الوطن، لا يمكن أن يقف عند كلمات ترددها الألسنة، بل أفعال وواجبات علينا جميعا أن نقوم بها ،أن نسعى من أجل تحقيقها؛ فيظهر حب الوطن في احترام قوانينه, فاحترام القانون من القيم الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وهو ثقافة حضارية وواجب ديني ووطني وجب على الجميع الالتزام به، وتربية الأبناء على الالتزام به منذ الصغر.

كما يظهر بالحفاظ على ممتلكاته وأمواله؛ فالمال العام أشد في حرمته من المال الخاص؛ وذلك لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له، ولقد قال الله تعالى (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (آل عمران161ولقد أنزله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) منزلة مال اليتيم الذي تجب رعايته وتنميته وحرمة أخذه والتفريط فيه أو الاعتداء عليه عندما قال "إني أنزلتُ نفسي مِن مال الله منزلةَ اليتيم " ومن ثم فإن استباحة المال العام أمر خطير، وذنب عظيم، وجرم كبير، و ضرب من الإفساد في الأرض، ولقد قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ) (الأعراف 85)

كما يظهر الوفاء للوطن بالتمسك بالعلم، فهو من ركائز وأسس البناء والرفعة والتقدم، وبه تتفاضل الأمم؛ فقد قال تعالى ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) سورة الزمر9). ولله در القائل :

العلم يرفع بيوتا لا عماد لها *** والجهل يهدم بيوت العز والكرم

فلا يمكن أن تبنى حضارة دون أن يكون أحد أركانها العلم؛ فبالعلم تنهض الأمم وتتقدم؛ لذلك ولغيره حث الإسلام على العلم وأكد عليه، حتى كان أول آيات نزلت على النبي (صلى الله عليه وسلم) داعية إلى العلم، قال تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )العلق1-5) بل انك لن تجد أن الله تعالى أمر بالاستزادة من شيء كما أمر بالاستزادة من العلم؛ قال تعالى (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ) (طه114) فيما يجب أن نعلم أن العلم الذي نقصد يشمل كل علم نافع في جميع المجالات التي فيها مصلحة البشرية، وتيسير أمور حياتها؛ كالطب والهندسة والكيمياء، والرياضيات، والميكانيكا، وعلوم الحاسوب والتكنولوجيا، والبناء، والملاحة ... الخ ؛ فحينما مدح الله تعالي داود وسليمان (عليهما السلام) في القران بالعلم فقال (ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (النمل 10) كان منه صناعة الحديد، ومنه منطق الطير، كما قال تعالى (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل16) كما أن قوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )(فاطر28) جاء في معرض الحديث عن العلوم الكونية مما يدل على اهتمام الإسلام ودعوته إلى العلم النافع في جميع المجالات، كما أن في العلم حفظ العقول مما يفسدها، كالتصورات الخاطئة والأفكار المتطرفة ولا شك أن حفظ العقول من التصورات الخاطئة والأفكار المتطرفة باب عظيم إلى البناء والتقدم والرقي.

- العمل، ودعم المنتجات الوطنية: فالقوة الاقتصادية ضرورية في تقدم الأوطان وهى عماد أول من أعمدة البناء وعامل أول من عوامل القوة، ولن يقوى الاقتصاد في امة إلا بالعمل والإنتاج و دعم المنتجات الوطنية، ولذا أمرنا الإسلام أن نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في العمل والإنتاج حتى في أحك الظروف؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، قَالَ " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " (الأدب المفرد للبخاري) وإذا كان العمل من أعظم أسباب تقدم الدول فان ذلك لن يتحقق إلا بإتقانه، إذ إن إتقان العمل وتجويده، من أهم الواجبات العملية التي حث عليها الإسلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم" إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ " كما ان دعم منتجات الوطن صناعة وتجارة وزراعة وتسويقا، لا شك أنه يحقق الرخاء الاقتصادي لأبناء الوطن.

- حسن الخلق: إذ إن الأخلاق الحسنة الطيبة من صدق وأمانة، ... وغير ذلك من مكارم الأخلاق لهي أساس عظيم لبناء الوطن فالسلوك الحسنة من شأنها أن تبني مجتمعًا قويا متماسكا لا تنال منه يد الأعداء، وما أجمل قول الشاعر:

إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وحرى بنا أن نذكر أن الأخلاق التي تبنى بها الأوطان لا تشمل ترويج الشائعات والأراجيف والأباطيل؛ فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور19) بل إن السلوك التي نحتاجها هي التي تبنى ولا تهدم، فليكن منهج كل واحد منا عند الحديث قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".  وليكن منهج كل واحد منا في سمعه قول الله (عز وجل) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات6)

إن حب الوطن ليس كلمات؛ بل إن هذا الحب مرتبط بعمل الفرد وسلوكه، يلازمه في كل مكان، في حله وترحاله، في المنزل والشارع ومكان العمل، فيظهر في إخلاص الوفاء للوطن، كما يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله، في القيام بالواجبات والمسئوليّات على أكمل وجه، كما يظهر في نشر الخير والقيم والأخلاق الفاضلة، ونشر روح المحبة والأخوة بين أبنائه، وقد قال تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة 2)، يظهر في مناهضة الأفكار المتطرفة، ففي مناهضتها توجيها للعقول والقلوب إلى الوسطية والمحبة والمودة، يظهر في التنافس في خدمة الوطن كل حسب طاقاته وقدراته والمحافظة على أمنه واستقراره، يظهر بأن يكون كل منا قدوة للأبناء والأجيال في حب الوطن وخدمته والحفاظ عليه والدفاع عنه والوفاء له .

حفظ الله مصر وجيشها من كل مكروه وسوء

=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
ماجستير في الدراسات الإسلامية

google-playkhamsatmostaqltradent