خطبة بعنـوان:
الحفاظ على الأوطان من صميم مقاصد الأديان
للشيخ / محمد حســــن داود
(15 شوال 1444هـ - 5 مايو 2023م)
العناصــــــر: مقدمة :
- الوطن نعمة من أعظم النعم.
- نماذج من حب النبي (صلى الله عليه وسلم) لوطنه.
- من عوامل الحفاظ على الأوطان.
- دعوة إلى تحقيق معاني الحب والوفاء للوطن.
الموضــوع: الحمد لله
رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف 99) وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك
عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فإن من أعظم النعم أن يكون للإنسان وطن يعيش تحت
ظلاله، ويتنفس هواءه، يجد فيه معنى السكينة، وحقيقة الطمأنينة، فيه تتصل أمجاد
الأجداد بالأحفاد، وتتلاحم قلوب الأهل والأحباب، فالوطن نعمة جليلة ومنة عظيمة؛ من
أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر في كتاب الله (جل وعلا)، فقد قرن
خروج الجسد من الوطن بخروج الروح من الجسد، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا
فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ
بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) (النساء66). من أراد أن يعرف
علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر إلى حال من فقدها، وليتدبر قيمتها في ميزان من
حرمها؛ فهي مهد الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات،
وموطن الآباء والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، فكم زلزلت بحب الأوطان مكامن
وجدان، وأطلق حبها قرائح شعراء، وسكبت في حبها محابر أدباء، وضحى من أجلها بالغالي
والنفيس الأوفياء.
وإننا لنجد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) أسمى الأمثلة لحب الوطن، وترجمته في الواقع عملا وبناء، حماية ودفاعا
وتضحية، فلقد وجه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى إجادة الانتماء للوطن، وحسن
الولاء والانتماء له، وإخلاص الوفاء له، داعيا إلى ترجمة هذا الحب إلي عمل وجد من
أجل الوطن، وحفاظا عليه، ودفاعا عنه؛ إذ يلقى درسا بليغا يقرع كل الآذان، ويتردد
صداه في كل زمان ومكان, وذلك عندما خرج مهاجرا، ووصل أطراف مكة، التفت إليها، وقال:
"وَاللهِ إِنَّي أَعْلَمُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبَّهَا إِلَى
اللهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" وفي
رِوَاية "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِليَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ
قَوْمِي أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ". وفي المدينة يتوجه إلى الله داعيا أن يحببها إليهم
كما حبب إليهم مكة، كما في (صحيح البخاري) عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا)، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
"اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا
مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ". فلقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعيش هذا الحب
والانتماء الوطني بكل وجدانه وجوارحه؛ فعن أَنَس بْن مَالِكٍ (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ) أنه قَالَ" كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ
مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ - أَيْ أَسْرَعَ
بِهَا - وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا ".
يا له من
حب، ويا له من انتماء فللمولى سبحانه الحمد على نعمة الوطن، هذه النعمة التي لا
تقدر بالأموال، ولا تساوم بالأرواح، بل تبذل الأموال لأجلها وترخص الأرواح في سبيل
حمايتها.
- فالحفاظ على الوطن من صميم مقاصد الدين، والدين
لا يقوى إلا في ظل وطن آمن يحميه، فكان الحفاظ على الأمن من أعظم عوامل الحفاظ على
الأوطان، حيث لا سعادة ولا صحة ولا نزهة ولا تقدم ولا رقى ولا عبادة بل ولا حياة بدون
الأمن، لذلك ترى أن من النعم التي جاء في القرآن الكريم ذكرها، ممتنا بها الله
(عز وجل) على قريش: نعمة الأمن، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ
* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش 3-4). وترى أن النبي
(صلى الله عليه وسلم) قدم نعمة الأمن في الذكر على نعمتي الصحة والمال، فقال صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِه ،مُعَافى
فِي بَدَنِهِ ،عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيا بِحَذَافِيْرِهَا".
وترى أن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) قدمها في الطلب والدعاء والرجاء قبل الرزق؛ قال
تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (البقرة
126).، حيث قدم الأمن في الطلب لأنه في ظل الأمن، يتمكن العبد من عبادة ربه وطاعته،
وفي ظل الأمن تتقدم الأمم، وترقى وتزدهر المجتمعات، أما ترى أن الله (تعالى) لما منَّ
على ثمود (قوم صالح) بنعمة الأمن نهضوا وبنوا حضارتهم، قال تعالى (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ
مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ)(الحجر 82)، فلو انعدم الأمن ما استطاعوا أن ينحتوا
بيوتاً من الخشب فضلا عن الجبال.
-
كذلك من عوامل الحفاظ على الأوطان: الأخذ بأسباب العلم: فيما يجب أن نعلم أن العلم
الذي نقصد يشمل كل علم نافع في جميع المجالات التي فيها مصلحة البشرية، وتيسير
أمور حياتها؛ فقوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر28) جاء في معرض الحديث عن العلوم الكونية
مما يدل على اهتمام الإسلام ودعوته إلى العلم النافع في جميع المجالات، كما أن في
العلم حفظ العقول مما يفسدها، كالتصورات الخاطئة والأفكار المتطرفة، ولا شك أن حفظ
العقول من أبواب الوفاء للوطن كما أنه باب عظيم إلى البناء والتقدم والرقي.
-
العمل والإتقان: فالقوة الاقتصادية ضرورية في تقدم الأوطان وهى عماد أول من أعمدة
البناء وعامل أول من عوامل القوة، ولن يقوى الاقتصاد في امة إلا بالعمل والإنتاج و دعم المنتجات الوطنية، ولذا أمرنا الإسلام
أن نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في العمل والإنتاج حتى في أشد
الظروف؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) ، قَالَ "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ
فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا
" (الأدب المفرد للبخاري).
-
حسن الخلق، وجمال السلوك، فما أجمل قول أمير الشعراء :
إنّما
الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
غير
أنه ما من شيء أثقل في ميزان العبد من حسن أخلاقه ورقى سلوكه، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،
قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: "مَا
مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ
حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ "
(رواه الترمذي). فيما يجب أن نعلم أن الأخلاق الطيبة لا تشمل ترويج الشائعات والأراجيف
والأباطيل فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي
الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور19) فليكن منهج كل واحد منا عند الحديث قول الرسول
(صلى الله عليه وسلم): "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ".
-
التكافل: فمما لا شك فيه أن التكافل بين أبناء المجتمع من مقومات البناء، وزرع المحبة
والمودة في القلوب، ولقد قال الله (تعالى): (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ
وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة ٢) وعن أَبي سعيدٍ الخُدريِّ (رضي الله عنه) قَالَ: بينَمَا
نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ
لَهُ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَال رسولُ اللَّه (صلى الله
عليه وسلم):" مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا ظَهْرَ
لَهُ، وَمَن كانَ لَهُ فَضْلٌ مِن زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَن لا زَادَ لَهُ،
فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأحدٍ
مِنَّا في فَضْلٍ" (رواه مسلم) وتدبر كيف كان هذا التكافل سببا في أن يمدح النبي
(صلى الله عليه وسلم) الأشعريين: إذ يقول: "إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا
في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ، جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ
في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ، بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ
مِنِّي وأنا منهمْ" (رواه مسلم).
إن حق الوطن في الحفاظ عليه مرتبط بعمل الفرد وسلوكه ارتباطا
لا انفكاك منه، يلازمه في كل مكان، في حله وترحاله، في المنزل والشارع، فيظهر في
إخلاص الوفاء للوطن، يظهر في القيام
بالواجبات والمسئوليّات على أكمل وجه، في احترام أنظمته وقوانينه، في التشبث بكل
ما يؤدي إلى وحدة الوطن وقوته، كما يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي
الاهتمام بنظافته وجماله، يظهر في خدمة الوطن والمحافظة على أمنه واستقراره، يظهر
في أن يكون كل منا قدوة للأبناء والأجيال في حب الوطن وخدمته والحفاظ عليه والدفاع
عنه والوفاء له.
نسألك اللهم
أن تحفظ مصر من كل مكروه وسوء
وأن تجعلها سخاء رخاء أمنا أمانا يا رب العالمين
=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ---- اضغط هنا