recent
آخر المشاركات

خطبة بعنـوان: الهجـرة النبــــوية المشــــرفة وحديث القرآن الكريم عن المهاجرين والأنصار - للشيخ / محمد حسـن داود (29 ذو الحجة 1445هـ - 5 يوليو 2024م)

  

خطبة بعنـوان:
الهجـرة النبــــوية المشــــرفة
وحديث القرآن الكريم عن المهاجرين والأنصار

للشيخ / محمد حسـن داود
(29 ذو الحجة 1445هـ -  5 يوليو 2024م)

العناصــــــر:      مقدمة :
- دروس من الهجرة النبوية المشرفة.

- حديث القرآن الكريم عن المهاجرين والأنصار.
- من واجبنا تجاه الصحابة (رضي الله عنهم).
- الهجرة التي نحتاج إليها في كل زمان ومكان.

الموضــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: (وَالسَّابِقُونَ الْاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْانصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة 100)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله القائل في حديثه الشريف: " اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ"، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فستظل الهجرة النبوية منبعا عذبا وموردا صافيا ينهل منه المسلمون الدروس والعبر في كل زمان ومكان، وإن كانت الهجرة من مكة إلى المدينة قد انتهت بفتح مكة؛ إذ يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ"، إلا أن دروسها ستظل خالدة بقاء الدهر، وإن من أجل هذه الدروس:

- الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله: فترى النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) وقد جهز الوسائل الضرورية للسفر قبل الموعد بزمن كاف، كما حرص على توزيع الأدوار والاختصاصات وتوفير الأدوات، فكان أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) يرافقه ويعاونه ويساعده، وهذه أسماء بنت أبى بكر تحمل الغذاء إلى النبي وصاحبه، وهذا عامر بن فهيرة يسلك بقطيعه طريق الغار ليزيل آثار أقدامهما. كما استعان صلى الله عليه وسلمَ بعبد الله بن أريقط الليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره خبيرا ماهرا في الطرق، غير أنه يتحلى بالرجولة فلا تضعف نفسه أمام مكافآت ترصدها قريش.

ومما ينبغي الإشارة إليه: أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله، بل إن الأخذ بالأسباب من التوكل على الله، ولقد جاء رجل إلى النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ (يعنى ناقته) وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التوكل على الله، فوجهه النبي (صَلى الله عليه وسلم) إلى أن مباشرة الأسباب أمر مطلوب ولا ينافي بحال من الأحوال التوكل على الله (سبحانه وتعالى) فقال له: "اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ".

- معية الله (سبحانه وتعالى) لنبيه (صَلى الله عليه وسلم): وتتجلى هذه المعية والعناية الربانية في كثير من مواضع الهجرة النبوية، ومن ذلك: عندما سكن النبي (صَلى الله عليه وسلم) وصاحبه الغار، وجَدَّ المشركون في طلبهما، وتعقّبوا كل مكان يمكن أن يختبئا فيه، ووصلوا إلى باب الغار، اشتد الأمر على أبي بكر، فعاجله النبي (صلى الله عليه وسلمَ) بأن عناية الله تحوطهما، قال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) (التوبة: 40)، وفي هذا يقول أبو بكر الصديق (رضي الله عنه): نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُءُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا" (رواه مسلم).

إن الناظر في أمر الهجرة  يرى أن الذي أذن بها ويسر السبل لها هو المولى (جل وعلا)؛ والذي كان قائدا لها هو النبي (صلى الله عليه وسلمَ)، والذي شارك فيها هم أناس امتدحهم القرآن الكريم، وخلد ذكرهم، وأثنى عليهم، وذكرهم بأفضل الصفات؛ وأسمى الأخلاق، وأعد لهم أعلى المقامات وأرفع الدرجات؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُومِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 74).

فلقد وصف القرآن الكريم المهاجرين بأسمى الصفات، وذكرهم بأعلى القيم والسمات حيث تركوا تجاراتهم الرابحة، وأموالهم الوفيرة، وغير ذلك من متاع الحياة الدنيا، لله (عز وجل) ولرسوله (صلى اللهُ عليه وسلم)، ففي سبب نزول قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: 207)، يقول القرطبيُّ في تفسيره: "قيل نَزَلَتْ فِي صُهَيْبٍ، فَإِنَّهُ أَقْبَلَ مُهَاجِرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى اللهُ عليه وسلم) فَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَانْتَثَلَ مَا فِي كِنَانَتِهِ، وَأَخَذَ قَوْسَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَرْمِيَ بِمَا فِي كِنَانَتِي، ثُمَّ أَضْرِبُ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ في يدي منه شي، ثُمَّ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ. فَقَالُوا: لَا نَتْرُكُكَ تَذْهَبُ عَنَّا غَنِيًّا وَقَدْ جِئْتَنَا صُعْلُوكًا، وَلَكِنْ دُلَّنَا عَلَى مَالِكَ بِمَكَّةَ وَنُخَلِّي عَنْكَ، وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَفَعَلَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى اللهُ عليه وسلم) نَزَلَتْ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ” الْآيَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى اللهُ عليه وسلم):" رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى"، وَتَلَا عَلَيْهِ الْآيَةَ".

إن الناظر في القرآن الكريم يجد ثناء الله (عز وجل) عليهم؛ قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (الحشر: 8) حيث وصفهم القرآن الكريم في هذه الآية بالصدق والإخلاص، ونصرة الله ورسوله، وفي آية أخرى وصفهم بأنهم يرجون رحمة الله، حيث قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 218) وفي غيرها تحدث عن أجرهم وفضلهم، قال تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران: 195).

إلى أين كانت الهجرة؟ لقد كانت هجرتهم إلى المدينة، حيث قومٍ تعجبون من صفاء قلوبهم، قوم قال الله (عز وجل) في شأنهم: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) (الحشر: 9) وقال النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "لَوْ أَنَّ الأَنْصَارَ سَلَكُوا وَادِيًا، أَوْ شِعْبًا، لَسَلَكْتُ فِي وَادِي الأَنْصَارِ، وَلَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ" (رواه البخاري)، قوم دعا لهم النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) فقال: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءِ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ". قوم قال لهم النبي (صلى اللهُ عليه وسلم):"أمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ".

فقد كانوا يتنافسون على من يدخل عليهم مهاجرا، الجميع يريد أن يظفر به، ترى لماذا يتنافسون عليه، يتنافسون ليصلوا به إلى درجات عالية رفيعة، إذ يعطيه الأنصاري من داره، وماله، وزرعه، وتجارته؛ فعن أنس قال: قَدِمَ عَلَيْنَا عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ، وآخَى رَسولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) بيْنَهُ وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، وكانَ كَثِيرَ المَالِ، فَقالَ سَعْدٌ: قدْ عَلِمَتِ الأنْصَارُ أنِّي مِن أكْثَرِهَا مَالًا، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وبيْنَكَ شَطْرَيْنِ، ولِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أعْجَبَهُما إلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا، حتَّى إذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقالَ عبدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لكَ في أهْلِكَ، فَلَمْ يَرْجِعْ يَومَئذٍ حتَّى أفْضَلَ شيئًا مِن سَمْنٍ وأَقِطٍ" (رواه البخاري).

إنهم الصحابة الأنصار، أهل الضيافة والنصـرة، أهل الوفاء والكرم والأخوة، أهل العطاء والبذل بلا حدود، فهم قدوة الخير لكل مُقتدٍ في العطاء، ( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر: 8-9)، قال السعدي في تفسيره: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) وهذا لمحبتهم لله ولرسوله، أحبوا أحبابه، وأحبوا من نصر دينه.( وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي: لا يحسدون المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله وخصهم به من الفضائل والمناقب التي هم أهلها، وهذا يدل على سلامة صدورهم، وانتفاء الغل والحقد والحسد عنها... (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) أي: ومن أوصاف الأنصار التي فاقوا بها غيرهم، وتميزوا بها على من سواهم، الإيثار، وهو أكمل أنواع الجود، وهو الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها".

وتدبر معي في سبب نزول هذه الآية، حيث يتجلى لنا موقف بيت من بيوت الأنصار، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَنِي الجَهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ): "أَلاَ رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، يَرْحَمُهُ اللَّهُ؟" فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) لاَ تَدَّخِرِيهِ شَيْئًا، قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَةِ، قَالَ: فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ العَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ، وَتَعَالَيْ فَأَطْفِئِي السِّرَاجَ وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) فَقَالَ: "قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلّ)َ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9). (متفق عليه).

لقد كانت أعمال المهاجرين والأنصار سببا في علو شأنهم ورفعة درجاتهم، قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 74)، وقال سبحانه: (وَالسَّابِقُونَ الْاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْانصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة 100). وقال عز وجل: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 117).

إنّ الواجب علينا أن نحفظ لهؤلاء الأخيار قدرهم، ونعرف لهم مكانتهم؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ (تَبَارَكَ وَتَعَالَى)، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ" (رواه أحمد والترمذي) وعن أنس بن مالك قال: قال النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ " (رواه البخاري)، وما أعظم ما جاء عَنْ أَنَسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟، قَالَ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ " (رواه البخاري).

وإن من حبهم: توقيرهم وعدم التطاول عليهم؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" (متفق عليه) وقال ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه: "لا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَلَمَقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً " (فضائل الصحابة للأمام أحمد).

كذلك الترضي عليهم، والدعاء لهم، ومدارسة سيرهم؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَىُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قَالَ " قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " (رواه مسلم).

ستبقى معاني الهجرة متجددة، وستظل دروسها خالدة، فالهجرة بالمعنى الأسمى والأعم والتي نحتاج إليها في حاضرنا بل وفي كل وقت: هي هجرة المعاصي والذنوب هجرة الخطايا والآثام، إذ يقول صلىَ الله عليه وسلم "وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" وفي رواية: "وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ"، هجرة السلبية إلى الايجابية، هجرة البطالة إلى العمل، هجرة الأفكار المغلوطة، هجرة المنكرات وفعل الخيرات، هجرة من اللغو إلى الجد والهمة ،هجرة من الرذائل إلى الفضائل، هجرة من البعد إلى الصلة بالله (سبحانه)، هجرة من البخل إلى الجود والكرم؛ إذ يقول جل وعلا: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا) (النساء: 96-70).

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
واحفظ اللهم
مصر من كل مكروه وسوء يا رب العالمين

=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 


google-playkhamsatmostaqltradent