recent
آخر المشاركات

خطبة بعنــــوان: أَفَتَّــــــانٌ أنت يا معــــــاذ؟! - للدكتـــــور/ محمد حســــن داود (26 صفر 1446هـ - 29 أغسطس 2024م)

 

خطبة بعنــــوان:
أَفَتَّــــــانٌ أنت يا معــــــاذ؟!
للدكتـــــور/ محمد حســــن داود

(26 صفر 1446هـ -  29 أغسطس 2024م)


العناصـــــر :   
- منزلة سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه) ومكانته.
- سبب قول النبي (صَلى الله عليه وسلم) لسيدنا معاذ: "أَفَتَّانٌ أَنْتَ؟".
- الإسلام دين التيسير: دعوة الإسلام إلى التيسير وصور من ذلك.

- تحذير الإسلام من الغلو والتشدد والتطرف وبيان عواقبه.

الموضــــــوع: الحمد لله الذي أكرم الإنسان، وعلمه البيان. سبحانه وتعالى، جعل الخير في التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، كان القرآن الكريم بسوره وآياته منهل أخلاقه؛ فبلغ في الشمائل أفضلها، وفي الفضائل أعظمها، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فلقد اختار الله (عز وجل) لهذه الأمة نبيا كريما، وداعيا حكيما، فبلَّغ صلى اللهُ عليه وسلم الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فما من خير إلا دل وحث عليه، وما من شر إلا حذر منه ونهى عنه.

ثم إن الله (جل وعلا) اختار لهذا النبي الكريم صحابة كراما، نصروه وأيدوه؛ إذ يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ)" إِنَّ اللَّهَ (تَبَارَكَ وَتَعَالَى) اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لي أَصْحَابًا،" (مستدرك الحاكم) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ"، وإن من هؤلاء: سيدنا "معاذ بن جبل" (رضي الله عنه) الذي كان قدوة لطلاب العلم، وأسوة للشباب، فهو من أوائل أهل المدينة المنورة إسلاما، أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين، فهي خمسة عشر عاما في الإسلام، لكنها تساوي قرونا في العمل والطاعة والعبادة والعلم.

لقد كان معاذ (رضي الله عنه) من خيرة الرجال والشباب بشهادة خير البشر (صلى الله عليه وسلمَ)؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: "نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَل" وذكر غيرهم (رواه الترمذي). ولم يقف أمره رضي الله عنه عند العبادة فحسب؛ وإنما نشر العلم بين الناس، ودعا إلى الله (عز وجل)؛ فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ) "خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ" (متفق عليه). ولعلمه وفقهه الذي قال فيه النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالْحَلاَلِ والْحَرامِ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ"، أرسله النبي (صلى الله عليه وسلَم) إلى اليمن معلما، ولما لا؟ وقد قال عنه فاروق الأمة عمر (رضي الله عنه): "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ ‌الْفِقْهِ ‌فَلْيَأْتِ ‌مُعَاذَ ‌بْنَ ‌جَبَلٍ"، وعَنْ فَروَةَ بنِ نَوفَلٍ الأَشجَعيِّ، قَالَ: قالَ ابنُ مَسْعُودٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ): "إِنَّ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ كَانَ أُمَّةً قانِتًا للهِ حَنيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَقُلتُ: غَلَطَ أَبُو عَبدِالرَّحمَنِ، إِنَّمَا قَالَ اللهُ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120) فَأَعَادَهَا عَلَيَّ، فَقالَ: إِنَّ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ حَنيفًا ولَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ، فَعَرَفتُ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الأَمرَ تَعَمُّدًا، فَسَكَتُّ، فَقالَ: أَتَدري ما الأُمَّةُ، وما القَانِتُ؟ فَقُلتُ: اللهُ أَعْلَمُ، فَقالَ: الأُمَّةُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الخَيْرَ، والقَانِتُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ، وكَذَلِكَ كانَ مُعاذٌ، كانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الخَيرَ، وكَانَ مُطيعًا لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ".

وحتى تدرك كيف كانت مكانته؛ استمع معي إلى قول الحبيب (صلى الله عليه وسلمَ) له: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ"؛ منقبة عظيمة ومنزلة رفيعة وفضل كبير أن ينال العبد حب النبي (صلى الله عليه وسلمَ)، ويبلغه النبي بذلك؛ ومع ذلك ترى النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) في موقف آخر يوجه له رضي الله عنه عبارة شديدة اللهجة، فيقول له: "‌أَفَتَّانٌ ‌أَنْتَ ‌يَا ‌مُعَاذُ"؟!، فيا ترى ما الذي كان حتى قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ) ما قال؟:

لقد كان معاذٌ (رضي الله عنه) يصلي مع رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلمَ) العشاء ثم يرجع فيصلي بقومه، في "بني سلمة" فرجع ذات ليلة فصلى بهم، واستفتح بالبقرة، وأطال، وكان قد صلى معه أعرابي، فانعزل وصلى لنفسه وأنصرف لما أطال معاذ، فلما صلّى معاذ ذُكِر له ما كان من الأعرابي، فقال: (لقد نافق الرجل)، فذهب الأعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وسلمَ) يشكو معاذا، فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا، وإن معاذا صلى بنا البارحة، فقرأ البقرة، فتجوزت في صلاتي. فقال النبي (صَلى الله عليه وسلم) لمعاذ: "يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ" أَوْ "فاتن" ثَلَاثَ مِرَارٍ: "فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ)، (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)، ‌فَإِنَّهُ ‌يُصَلِّي ‌وَرَاءَكَ ‌الْكَبِيرُ ‌وَالضَّعِيفُ ‌وَذُو الْحَاجَةِ". قال النووي في "شرح صحيح مسلم": "(أفتان أنت) أي منفر عن الدين وصاد عنه".

لقد علمنا القرآن الكريم أن الدين قائم على الرحمة والتيسير ورفع الحرج؛ قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وقال عز وجل: ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وهذا مما أكد عليه النبي (صلى اللهُ عليه وسلم)؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ" (رواه البخاري) ويقول: "إِنَّكُمْ أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ الْيُسْرُ" (رواه أحمد) ويقول: "إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ " (رواه أحمد)، وعَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ السُّلَمِيِّ، أن النبي (صلى الله عليه وسلمَ) قال: "إِنَّ اللهَ (تَعَالَى) رَضِيَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْيُسْرَ، وَكَرِهَ لَهَا الْعُسْرَ" قَالَهَا ثَلَاثًا (رواه الطبراني، في الكبير) وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أن النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: "يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا" (رواه البخاري).

فالإسلام دين في جوهره ورسالته، وأحكامه وتشريعاته، وجملته وتفصيله؛ يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت، يقوي ولا يضعف، يبنى ولا يهدم، سماحة كله، رحمة كله، تيسير كله، ولك أن ترى ذلك واضحا جليا في جميع العبادات؛ فانظر كيف أباح الصلاة للمريض على أي وجه يتحقق له من خلاله رفع الحرج، فعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ : كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَنِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: "صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ" (رواه البخاري). وفي الصيام: يقول الله (جل وعلا) (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 185).  وفى الحج: يقول النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا"، فقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "لَوْ قُلْتُ : نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ" (رواه مسلم). حتى في الكفارات: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقَالَ: هَلَكْتُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"(رواه مسلم).

إن التيسير مبدأ عظيم من مبادئ الشريعة الإسلامية، وهذا واضح جلي في حياة النبي (صَلى الله عليه وسلم) ظاهر في أقواله وأفعاله، فقد قال الله (جل وعلا) في حقه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128) ويقول (صلى الله عليه وسلمَ): "إنَّما أنا رَحْمةٌ مُهْداةٌ"، ويقول أيضا:" بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ"، وعن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)، قالت: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" (متفق عليه).

بينما الغلو والتشدد، كان أبعد ما يكون النبي (صلى الله عليه وسلمَ) منه، فقد قال: " هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ، هَلَكَ المُتَنَطِّعُونُ" ينكر الغلو ولا يقره، يحذر منه، وينهي عنه، فانظر ماذا قال لما جاءه مثل خبر معاذ؛ فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلَانٌ فِيهَا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلمَ)، مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ‌إِنَّ ‌مِنْكُمْ ‌مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ" (رواه البخاري ومسلم). وعن أَنَس بْنَ مَالِكٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، يَقُولُ: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (رواه البخاري). وعن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، مَرَّتْ بِهَا، وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فَقُلْتُ هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) "لَا تَنَامُ اللَّيْلَ خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا" (رواه مسلم). ولما رأى حبلاً ممدودًا بين ساريتين فسأل عنه، فأُخبر أنه لزينب، تتمسك به إذا كسلت عن الصلاة، فأمر (صَلى الله عليه وسلم) بإزالته وقال: " لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ " (متفق عليه). وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "رَأَى النَّبِيُّ (صَلى الله عليه وسلم) رَجُلًا يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ قَالَ: "إِنَّ اللهَ ‌غَنِيٌّ ‌عَنْ ‌تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ، مُرْهُ فَلْيَرْكَبْ" (رواه النسائي).

فلقد نهى النبي (صلى الله عليه وسلمَ) عن الغلو في الدين، لما تصل به حقيقته، من الخروج عن حد الاعتدال، لما يكمن في بواطنه من مجاوزة الحد المشروع إلى التكلف والغلو الغير مشروع، لما يغيب عن جوانبه من معاني الرحمة والتيسير، لما يحويه من معاني التشدد؛ ولا شك أن التشدد هو أول طريق التطرف، وأن الإرهاب يبدأ بنظرة العبد إلى نفسه بالكبر والعجب في العبادة وأنه هو على الطريق المستقيم دون غيره، وأن عبادته في لباس التشدد هي الطريق الصحيح دون غيره، كقول إبليس عن آدم (عليه السلام): (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (الأعراف : 12)، مما يصل بالعبد إلى احتقار الناس واستصغارهم والتعامل معهم بالغلظة وإلقائهم بضعف الدين والكفر والتطاول عليهم باللسان بل وباليد أيضا.

وهذا يفسر لنا شدة غضب النبي (صَلى الله عليه وسلم) في موقف معاذ أو غيره من المواقف التي ذكرت، فهو يريد أن يحمي أمته ويصونها ويقيها خطر التشدد والغلو، يريد أن يحمي كل مسلم أن يتخذ طريقا ينتهي به إلى التطرف، يريد أن يغلق كل باب يصل بالعبد إلى التطرف والإرهاب؛ ولعلي استشهد بموقف يشرح لنا ويفصل إلى أي مدى قد يصل التشدد في أمور الدين بالعبد؛ فعن جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أُخبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ:" قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ" (رواه أبو داود).

فما أحوجنا إلى أن نتمسك بقيم ديننا وهدى نبينا فنحقق التيسير في أمور ديننا، وننبذ الغلو والتشدد من أخلاقنا وسلوكنا، فالله (عز وجل) قال في حق حبيبنا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الانبياء107)، ويقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): "إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ".

اللهم ارزقنا حسن الفهم لدينك، واحفظ اللهم مصر من كل مكروه وسوء

=== كتبه ===
محمد حســـــــن داود

إمام وخطــيب ومدرس
دكتوراه في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 


 

google-playkhamsatmostaqltradent