recent
آخر المشاركات

خطبة بعنــــوان: الحيـــــاء خيـــــر كله - للدكتـــــور/ محمد حســــن داود (27 جمادى الأولى 1446هـ - 29 نوفمبر 2024م)

 

خطبة بعنــــوان:
الحيـــــاء خيـــــر كله
للدكتـــــور/ محمد حســــن داود

(27 جمادى الأولى 1446هـ - 29 نوفمبر 2024م)



العناصـــــر :   
- منزلة الحيـاء ومكانته.
- أنواع الحياء.
- فضل الحياء وأثره.
- دعوة إلى تحقيق معاني الحياء .

الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله فاطر السبع الطباق، مقسم الأرزاق، الهادي لأحسن الأخلاق، مالك يوم التلاق، نحمده على آلاء تملأ الآفاق، ونعم تطوق القلوب والأعناق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ"، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فلقد أولى الإسلام الأخلاق اهتماما بالغا، حتى قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ"، ومن الأخلاق الحسنة، والصفات الطيبة، والقيم السامية التي دعا إليها الإسلام وحث وأكد عليها: "الحياء".

فهو فطرة إنسانية سوية، حتى كان العرب يتحدثون عن هذا الخلق، ويقدرونه، ويتفاخرون به قبل الإسلام؛ فهذا أبو سفيان (رضي الله عنه) يتحدث عن سؤال هرقل (ملك الروم) له عن النَّبي (صلَّى الله عليه وسلَّم) - وأبو سيفان يومئذ لم يدخل الإسلام-، فيقول: "واللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ يَومَئذٍ، مِن أنْ يَأْثُرَ أصْحَابِي عَنِّي الكَذِبَ، لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عنْه، ولَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أنْ يَأْثُرُوا الكَذِبَ عَنِّي، فَصَدَقْتُهُ" (متفق عليه).

وهذا عنترة بن شداد، يقول والفخر بغض طرفه عن جارته حياء يسكن كلماته وقلبه:

وَأَغُضُّ طَرْفِي إِنْ بَدَتْ لِي جَارَتِي *** حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا

إن الحياء خلق جميل، نبيل، طيب، يبعث على فعل كل مليح، وترك كل قبيح، يبعد الإنسان عن الرذائل، ويحمله على الفضائل؛ قال الإمام الْجُنَيْدُ (رحمه الله): "الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ، وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ، وحَقِيقَتُهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ".

فهو كالمحرك؛ يحرك الإنسان إلى كل خير وكمال، ويمنعه من الانتكاس في الرذائل؛ ولذلك كان محمودا في الشريعة الإسلامية على لسان خير البرية؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَال: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ" (رواه مسلم).

- فلقد خصه النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) من بين شعب الإيمان بالذكر؛ لأنه الحامل على الشعب الأخرى؛ فمن تحلى بالحياء؛ تحلى بأحسن الصفات، وتخلق بأفضل الأخلاق، وتمسك بأسمى القيم، ومن ثم أتي كل خير، وفعل كل معروف، وانتهي عن كل شر، واجتنب كل منكر.

- بل بلغ الحياء من مكانته ودرجته: أن كان خلق الإسلام؛ فعنْ أَنَس (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ " (رواه ابن ماجه).

- والحياء مقرونٌ بالإيمان وملازمٌ للمؤمن كظله، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر؛ فعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ قُرِنَا جَمِيعًا فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ" (ابن ماجه).

- والحياء هو الدين كله، كما جاء عن قُرَّة بن إِيَاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ) قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم)، فَذُكِرَ عِنْدَهُ الحَيَاءُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الحَيَاءُ مِنَ الدِّينِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم): "بَل هُوَ الدِّين كُلُّهُ" (الطبراني في الكبير).

- والله (عز وجل) حيي يحب الحياء، فقد قَالَ النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا" (رواه ابن حبان). وقال أيضا "إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ" (رواه أبو داود). وعن أشج عبد القيس (رضي الله عنه) قال: قال لي النَّبيُّ (صلَّى الله عليه وسلَّم): "إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ)" قُلتُ: مَا هُمَا؟ قَالَ: "الحِلمُ وَالحَيَاءُ".

- وعن حياء الملائكة الكِرام؛ فقد قال النبي (صَلى الله عليه وسلم) في عثمان (رضي الله عنه): "أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ؟" (رواه مسلم).

- كما أن الحياء خُلُق الأنبياء: فقد اتصف به سيدنا موسى (عليه السلام)؛ كما قال النبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ" (رواه البخاري)، ولقد كان النبيّ (صلى الله عليه وسلم) المَثَل الأعلى في الحياء؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ (رضي الله عنه)، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ".‏

- كما كان الصحابة (رضي الله عنهم) يعزِّزُونَ في نفوسهم ونفوس أبنائهم خلق الحياء؛ إذ يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ) في سيدنا عثمان: "وأصدقُهم حياءً عثمانُ". وعن عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، قال: "لَمَّا بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، كُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْهُ، فَمَا مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَلَا رَاجَعْتُهُ فِيمَا أُرِيدُ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيَاءً مِنْهُ". وهذا عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) كان غلاما في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ)  فيقول: "إن رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ) قال: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟" قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ"، قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَحَدَّثْتُ أبِي بما وقَعَ في نَفْسِي، فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ يَكونَ لي كَذَا وكَذَا. (البخاري ومسلم).

حَياءَك فاحفَظْه عليكَ فإنَّما *** يدُلُّ على فَضلِ الكريمِ حياؤهُ

إن أسمى صور الحياء تتجلى في الحياء من الخالق (سبحانه وتعالى)؛ وذلك باستشعار عظمته، واستحضار هيبته، فالله (سبحانه) محيط بنا، يسمع كلامنا ويرى أفعالنا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: 7)، وقال سبحانه: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر: 19).

فمن تدبر هذا المقام حفظ جوارحه أن تقع في الحرام، وكان في حياء من ربه أن يراه حيث نهاه، أو يفتقده حيث أمره، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): ‏"‏اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ‏"‏،‏ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ،‏ قَالَ: ‏"‏لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ‏"‏ (رواه الترمذي).

فكيف لا نكون أهل حياء من الله (عز وجل)، وحقه علينا عظيم، وإذا كان أحدنا يخجل من التقصير في حق من أسدى إليه معروفا ولو صغيرا؛ فكيف لا يستعظم تقصيره في حق الله (جل وعلا) وهو القائل: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 18). قال ابن قدامة (رحمه الله) في "كتاب التوابين": "روي أن رجلاً جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له : يا أبا إسحاق، إني مُسْرف على نفسي فاعْرض عليّ ما يكون لها زاجراً ومستنقذاً لقلبي، فقال له : إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية، ولم توبقك لذة، قال: هات يا أبا إسحاق، قال: أما الأولى فإذا أردت أن تعصي الله (عز وجل) فلا تأكل رزقه. قال: فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه؟، قال له: يا هذا، أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه؟ قال: لا ، هات الثانية. قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئاً من بلاده، قال الرجل: هذه أعظم من الأولى، إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن ؟ قال: يا هذا، أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟ قال: لا، هات الثالثة!. قال: إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعاً لا يراك فيه فاعْصِه فيه، قال: يا إبراهيم، كيف هذا وهو مُطَّلع على ما في السرائر؟ قال: يا هذا، أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه، وهو يراك ويرى ما تجاهره به؟ قال: لا ، هات الرابعة. قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له : أخِّرْني حتى أتوب توبة نصوحاً، وأعمل لله عملاً صالحاً . قال: لا يقبل مِنِّي . قال: يا هذا، فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير فكيف ترجو وَجْه الخلاص ؟ قال: هات الخامسة. قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك إلى النار فلا تذهب معهم. قال: لا يَدَعُونني ولا يقبلون مِنِّي . قال: فكيف ترجو النجاة إذاً ؟ قال له : يا إبراهيم، حسبي حسبي، أنا أستغفر الله وأتوب إليه. ولَزِمَه في العبادة حتى فَرَّق الموت بينهما".

- كذلك من الحياء: الحياء من ملائكة الرحمن، الشهود على الأقوال والأفعال، فلا يكتبون عنك إلا كل خير، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار: 9-12).

- وأما حياء العبد من الناس فيكون بحسن المعاملة، وتقديم الخير لهم، وكف الأذى عنهم قليله وكثيره، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ" (رواه البخاري) ويدخل في الحياء من الناس بر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، وحفظ الأسرار، وتوقير الكبير، والرحمة بالصغير، فقد فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا"(رواه ابن ماجه).

- كذلك من الحياء: الحياء من النفس، ويكون بحفظها من الذنوب والمهلكات، وصيانة الخلوات، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم: 6)، وعنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "مَا كَرِهَ اللَّهُ مِنْكَ شَيْئًا، فَلا تَفْعَلْهُ إِذَا خَلَوْتَ" (ابن حبان).

وإِذا خَلَوتَ بِرِيبَةٍ فــــــي ظُلمَةٍ *** والنَفسُ داعيَةٌ إلى الطُغيانِ
فاِستَحيِ مِن نَظَرِ الإِلَهِ وقل لها *** إنَّ الَّذي خَلَقَ الظَلامَ يَراني

إن الحياء هو خلق الأنبياء، ومسلك الشرفاء، وشيمة الأتقياء، وباب التقوى، ومفتاح حب الناس، هو عنوان الوقار، ومنبع الفضيلة، يمنع صاحبه فعل المنكرات، وارتكاب الموبقات، ويدفعه إلى القيام بالواجبات، وفعل الصالحات، ومن ثم تنال به الدرجات، وتتنزل به الرحمات، لذلك كان من أفضل الأخلاق، وأجلها، وأعظمها قدرا، فعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): " دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ" (رواه البخاري).

فالحياء كله خير، ولا يأتي إلا بخير، كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ"، وقال أيضا "الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ". ولننظر كيف أن الله (عز وجل) ذكر تلك المرأة التي جاءت إلى سيدنا موسى (عليه السلام) من طرف أبيها بحيائها في القرآن الكريم، قال تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) (القصص: 25).

فما كان الحياء في شيء إلا زانه، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ". وكفى في فضله أنه باب إلى الجنة إذ يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) "الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ"(رواه الترمذي).

فما أعظم أن نتحلى بهذا الخلق العظيم الطيب، ما أعظم أن نتخلق بخُلق الحياء، وأن نُزَكِّ به نفوسنا، ونربِّ عليه أبناءنا، فلنتدبر دائما وصية النبي (صلى الله عليه وسلم) كما جاء عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ): أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي؟ قَالَ: "أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلّ)َ، كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا صَالِـحًا مِنْ قَوْمِكَ" (رواه أحمد).

ولنحذر ذهاب هذا الخلق وفقده، فعن ابن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): "إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت"َ (رواه الْبُخَارِي)، ويقول عمر (رضي الله عنه): "من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه". وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ (رضي الله عنه) قَالَ : إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ هَلَاكًا، نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، فَإِذَا نَزَعَ مِنْهُ الْحَيَاءَ، لَمْ تَلْقَهُ إِلَّا مَقِيتًا مُمَقَّتًا" (جامع العلوم، لابن رجب)، وما أشد قول مالك بن دينار (رضي الله عنه): "مَا عَاقَبَ اللهُ قَلْباً بِأَشَدَّ مِنْ أَنْ يَسْلُبَ مِنْهُ الحَيَاءَ".

إذا لم تَخْشَ عاقبةَ اللَّيالــــــي *** ولم تستَحِ فاصنَعْ ما تشاءُ
فلا واللهِ ما في العَيشِ خَيــــرٌ *** ولا الدُّنيا إذا ذهَب الحَيــاءُ
يعيشُ المرءُ ما استحيا بخَيرٍ *** ويبقى العودُ ما بَقِيَ اللِّحاءُ

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق واصرف عنا سيئها
واحفظ اللهم مصــــــر مـن كل مكروه وسـوء

=== كتبه===
محمد حســـــــن داود

إمام وخطيب ومدرس
دكتوراة في الفقه المقارن


لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      ----     اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 


 

google-playkhamsatmostaqltradent