recent
آخر المشاركات

خطبة بعنــــوان: صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان - للدكتـــــور/ محمد حســــن داود (11 جمادى الآخرة 1446هـ - 13 ديسمبر 2024م)

 

خطبة بعنــــوان:
صناعة العقول وأثرها في بناء الإنسان
للدكتـــــور/ محمد حســــن داود

(11 جمادى الآخرة 1446هـ - 13 ديسمبر 2024م)



العناصـــــر :   
- مكانة العقل وأهميته.
- الدين الإسلامي يحترم العقل ويحافظ عليه.
- صناعة العقول صور ونماذج.
- أثر صناعة العقول في بناء الإنسان.

الموضــــــوع: الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

إن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان "نعمة العقل"، التي تَميز بها الإنسان عن سائر الحيوانات، والتي يميز بها بين ما ينفع وما يضر، وما يصلح وما يفسد، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) (الإسراء70) وقال عز وجل: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78)، وبسبب هذه النعمة كلف الله (عز وجل) الإنسان بحمل الأمانة، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وأظهر له الآيات، فالعقل هو مناط التكليف، إذ يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثلاثة: عن النائم حتى يَسْتَيْقِظَ، وعن الصبي حتى يَحْتَلِمَ، وعن المجنون حتى يَعْقِلَ".

والدين الإسلامي في كل جوانبه يحترم العقل الإسلامي ويقوم على صناعة العقول الذكية الواعية السليمة، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: 29). ولذلك ترى أن من عظيم أمر العقل أنه دليل لصاحبه إلى الإيمان، وقائد له إلى الطاعة والبر والإحسان، فكم نقرأ في كتاب الله من مثل قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 242)، وقوله سبحانه: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل: 12)، وقوله عز وجل: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الجاثية: 13) وقوله جل وعلا: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) (الأنعام: 98)،

- إن من جوانب اهتمام الإسلام بصناعة العقول أن حث على التفكر في آيات الله ، فعبادة التفكر في آيات الله ومخلوقاته من أعظم العبادة، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: "تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ " (شعب الإيمان للبيهقي)، وذلك لما تثمره من صلاح القلب، وزيادة إيمانه، وتثبيت يقينه، يَقُولُ سيدنا عَلِي بن أبي طالب (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ): "لَقَدْ سَبَقَ إِلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ أَقْوَامٌ مَا كَانُوا بِأَكْثَرِ النَّاسِ صَلَاةً وَلَا صِيَامَا وَلَا حَجَّا وَلَا اعْتِمَارَا، وَلَكِنَّهُمْ عَقَلُوا عَنِ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ) مَوَاعِظَهُ، فَوَجِلَتْ مِنْهُ قُلُوبُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ نفُوسُهم، وَخَشِعَتْ له ْجَوَارِحُهم". وقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ (رَحِمَهُ اللَّهُ): "مَا طَالَتْ فِكْرَةُ امْرِئٍ إِلَّا فَهِمَ، وَمَا فَهِمَ إِلَّا عَلِمَ، وَمَا عَلِمَ إِلَّا عَمِلَ". وقال بشر الحافي: "لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه".

فالتفكر يدفع إلى العبادة، ويبعد عن المعاصي، قال تعالى: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101)، وقال عز وجل (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) (آل عمران190)، سُئلت أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)، أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِهِ مِنْ رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ) فَسَكَتَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةٌ مِنَ اللَّيَالِي قَالَ: "يَا عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي" قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟، قَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)(آل عمران190)" (صحيح ابن حبان).

- كذلك من جوانب اهتمام الإسلام بصناعة العقول أن حث العلماء ودعاهم إلى الاجتهاد واستنباط الاحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية بما تنصلح به أحوال الناس، فالشريعة ما جاءت إلا بما فيه مصالح الناس، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: 29)، وقال سبحانه: (إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون) (الزخرف: 3)، ولقد جاء أنَّ رسولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) لَمَّا أرادَ أنْ يَبعَثَ مُعاذًا إلى اليَمنِ، قال: "كيف تَقضي إذا عرَضَ لكَ قَضاءٌ"؟ قال: أقْضي بكِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال: "فإنْ لمْ تَجِدْ في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ؟" قال: فبِسُنَّةِ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)، قال: "فإنْ لمْ تَجِدْ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ ولا في كِتابِ اللهِ؟" قال: أجْتَهِدُ رَأْيي ولا آلُو: فضرَبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صَدْرِه، وقال: "الحمْدُ للهِ الَّذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللهِ لِمَا يُرْضي رسولَ اللهِ". يقول الزبير بن كعيب: قال لي شريكٌ: كنا في جنازة غلام من بني هاشم وقد تبعها وجوه الناس وأشرافهم، فأنا إلى جنب ابن شبرمة أماشيه، إذ قامت الجنازة، فقيل: ما للجنازة لا يمشى بها؟ قيل: خرجت أمه والهةً عليه، سافرةً وجهها في قميص، فحلف أبوه بالطلاق لترجعن، وحلفت هي بصدقة ما تملِك لا رجعت حتى يصلى عليه، وكان يومئذ مع الجنازة ابن شبرمة ونظراؤه، فاجتمعوا لذلك، وسئلوا عن المسألة، فلم يكن عندهم جوابٌ حاضرٌ، قال: فذهبوا فدعوا بأبي حنيفة وهو في عرض الناس، فجاء مغطيًا رأسه والمرأة والزوج وقوفٌ والناس، فقال للمرأة: علامَ حلفتِ؟ قالت: على كذا وكذا، وقال للزوج: بمَ حلفت؟ قال: بكذا، قال: ضعوا السرير، فوُضِع، وقال للرجل: تقدَّم فصلِّ على ابنك، فلما صلى، قال: ارجعي؛ فقد خرجتما عن يمينكما، احملوا ميتكم، فاستحسنها الناس، فقال ابن شبرمة - على ما حكى عنه شريكٌ -: عجزتِ النساء أن تلدَ مِثل النعمان؛ (الانتقاء لابن عبد البر).

- كذلك من جوانب اهتمام الإسلام بصناعة العقول أن حث على العلم: فكان أول ما نزل من القرآن على النبي (صَلى الله عليه وسلم)، قول الحق (سبحانه وتعالى): (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1-5)، ولم نر في القرآن الكريم أمرا للنبي (صلى الله عليه وسلمَ) فيه الحرص على الاستزادة من شيء كما رأيناه في العلم، فقد قال تعالى: ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه: 114).

- كذلك من جوانب اهتمام الإسلام بصناعة العقول أن نهى عن المخدرات والإدمان، فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة90-91)، وعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" (رواه مسلم).

- كذلك من صناعة العقول تنمية مواهبها وخبراتها فقد كان الصحابة يسعون إلى ثقل مواهبهم وزيادة معارفهم وتنمية مواهبهم ومن ذلك أن أبا هريرة (رضي الله عنه) سئل النبي (صَلى الله عليه وسلم) : مَن أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتِكَ يَومَ القِيَامَةِ؟، قالَ رَسولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ): لقَدْ ظَنَنْتُ يا أبَا هُرَيْرَةَ أنْ لا يَسْأَلُنِي عن هذا الحَديثِ أحَدٌ أوَّلُ مِنْكَ لِما رَأَيْتُ مِن حِرْصِكَ علَى الحَديثِ، أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ، مَن قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِن قَلْبِهِ، أوْ نَفْسِهِ".

- كذلك من جوانب اهتمام الإسلام بصناعة العقول أن أمر بحسن تربية الأبناء، والوقوف على أفكارهم فنؤكد على صحيحها، وننزع منها فاسدها، والله (عز وجل) يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6).

من جانب آخر نجد الإشارة إلى الاهتمام بعقولهم منذ الطفولة وتنمية مواهبهم وقدراتهم.

إن طريق التقدم والازدهار مرهون بإعمال العقل، بإعماله في الخير، فيما ينفع الناس، ومن ثم فمن أهمل عقله فقد أخطأ طريق التقدم، ولقد عاب القرآن الكريم على من يعطلون عقولهم عن وظائفها، قال تعالى: (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء: 10). وقال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24)، وقال عز وجل (وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف: 105)، وقال عز وجل (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46).

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا
واحفظ اللهم مصـــر مـن كل مكروه وسـوء

=== كتبه ===

محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومدرس
دكتوراة في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 


 

 

google-playkhamsatmostaqltradent