recent
آخر المشاركات

( من دروس شهر رمضان) رمضـان شهـر الصبـر " للدكتــــور / محمد حســن داود

 

( من دروس شهر رمضان)
رمضـان شهـر الصبـر "
للدكتــــور / محمد حســن داود



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

لقد شُرع الصيام لحكم عظيمة، وفوائد جليلة، وآثار طيبة، ومن ذلك أن يألف الإنسان خلق الصبر، فهو باب للرحمات، وطريق للخيرات، قال تعالى: (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) (النحل: 126).

هو أوسع العطاء وأفضل النوال، يقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): "وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ " (رواه البخاري ومسلم).

هو نصف الإيمان، حيث إن حال المؤمن لا يخلو من شكر على نعمة، أو صبر على ابتلاء، ولقد قال رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ " (رواه مسلم) قال ابن مسعود (رضي الله عنه): "الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ، وَالْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ" .

كما أنه ضياء لصاحبه، ونور له في حياته، يزيل مرارة البلاء عنه، ويزيح عنه الهموم والأحزان، ويدفعه لصالح العمل، ويجعله ثابتا عند البلاء، واثقا بعطاء الله، فقد قال رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): " وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ " (رواه مسلم).

أخبر الله (جل وعلا) عن محبته لأهل الصبر فقال سبحانه: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).

فهو باب إلى تعظيم الأجور ومغفرة السيئات، فقال عز وجل: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) (هود:11).

وهو طريق إلى الفلاح وباب إلى الجنة؛ قال جل وعلا: ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل96: ) وقال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ* سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: 22-24)

ولقد وصف النبي (صلى الله عليه وسلمَ) شهر رمضان بشهر الصبر في قوله: "صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ " (رواه البزار) إذ تجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة؛ وهى : الصبر على طاعة الله ، والصبر عن محارم الله، والصبر على الأقدار المؤلمة؛

ففي شهر رمضان، صبر على طاعة الله وعبادته، والتقرب إليه بصالح الأعمال من صيام، وقيام، وصلاة، وصدقات، وذكر ، وقراءة القرآن، وغيرها من صنوف الطاعات والقربات، رتب الله (عز وجل) عليها الأجر العظيم، والفضل الكبير، فقال جل وعلا: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) (الاحزاب: 71)، وقال تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) (النساء: 69) وقال جل وعلا: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (النور: 52) .

وفيه صبر طوال النهار عن المفطرات ، وصبر عن غير ذلك مما حرم الله (عز وجل)، ولقد قال الله (جل وعلا): (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ) (النساء: 31) أما من اقترف المعاصي والذنوب، وهجر الصبر عن الشهوات، فاعرض عن طاعة الله وسلك طريق العصيان فقد أخطأ طريق جنة الرحمن، والله (عز وجل) يقول: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)  (طه: 123-126) ويقول سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الاحزاب: 36) ويقول عز وجل: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (النساء14) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ " كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى ؟ قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى " (رواه البخاري).

كما أن في الصيام صبر على الأقدار، ومنها: ما يحصل للصائم من ألم الجوع والعطش، وضعف النفس والبدن، قال مجاهد وغيره في قوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ) (الحاقة: 24) "نزلت في الصائمين" وقال يعقوب بن يوسف الحنفي: "بلغنا أن الله (تعالى) يقول لأوليائه يوم القيامة: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وجفت بطونكم كونوا اليوم في نعيمكم وتعاطوا الكأس فيما بينكم( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (الحاقة: 24) ويقول أنس: "إن لله مائدة لم تر مثلَها عين، ولم تسمع أذن ولا خطر على قلب بشر، لا يقعد عليها إلا الصائمون " (لطائف المعارف لابن رجب ).

وعليه نقول إذا كان شهر رمضان هو شهر الصبر كما جاء في الحديث الذي ذكرنا " صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ " (رواه البزار) ، فإن ذلك يدلنا على سر من جملة أسرار ما جاء عن أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) ، أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : قَالَ اللَّهُ : " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ" ، إذ إن  الصيام يمثل حقيقة عبادة الصبر بأنواعها ويشتمل على أسمى معانيها وأرفع قيمها، وقد قال الله (تعالى) في جزاء الصابرين: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر10) قال القرطبي (رحمه الله) " (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (الزمر: 10 ) أي بغير تقدير . وقيل : يزاد على الثواب ; لأنه لو أعطي بقدر ما عمل لكان بحساب . وقيل : بغير حساب أي : بغير متابعة ولا مطالبة كما تقع المطالبة بنعيم الدنيا . و " الصابرون " هنا الصائمون ، دليله قوله عليه الصلاة والسلام مخبرا عن الله ( عز وجل) : " الصوم لي وأنا أجزي به" قال أهل العلم: كل أجر يكال كيلا ويوزن وزنا إلا الصوم فإنه يحثى حثوا ويغرف غرفا ، وحكي عن علي (رضي الله عنه) . وقال مالك بن أنس في قوله : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، قال : هو الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها. ولا شك أن كل من سلم فيما أصابه ، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجرهم . "( تفسير القرطبي).

لقد أمرنا الله جل وعلا بالصبر بكل أنواعه ، وحثنا عليه في كثير من الآيات، فقال سبحانه: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) (البقرة: 45 )، وقال سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (البقرة: 153) ،فحرى بنا أن نحقق هذا الخلق العظيم، في شهر الصبر ،حتى ننال الأجر العظيم والفضل الكبير فقد قال الله (جل وعلا): (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (النساء: 25).

ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين، واحفظ اللهم مصر من كل مكروه وسوء

=== كتبه ===

محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومـــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن

لتحميــل الدرس word   رابط مباشر      -----        اضغط هنا 

لتحميــل الدرس word   رابط مباشر (نسخة أخرى)  اضغط هنا 

لتحميــل الدرس   pdf   رابط مباشر     -----         اضغط هنا 


لتحميــل الدرس word   جوجل درايف    -----        اضغط هنا 

لتحميــل الدرس word جوجل درايف (نسخة أخرى)  اضغط هنا 

لتحميــل الدرس pdf    جوجل درايف     ----         اضغط هنا


google-playkhamsatmostaqltradent