recent
آخر المشاركات

خطبة بعنـــــــوان : علو الهمة سبيل الأمم المتحضرة- للشيخ / محمد حســـن داود


خطبة بعنـــــــوان :
علو الهمة سبيل الأمم المتحضرة
للشيخ / محمد حســـن داود
ولتحميل الخطبة : word  اضغط هنا

ولتحميل الخطبة : pdf     اضغط هنا

العناصـــــــر:
- الهمم العالية باب الأمم الى أعالى القمم، وطريق النفوس الى محاسن الشيم.
- حرص الاسلام ودعوته الى علو الهمة، وذمه لضعفها وفتورها .
- علو الهمة في سيرة الانبياء عليهم الصلاة والسلام .
- علو الهمة في حياة الصحابة رضي الله عنهم .
- مجالات تحتاج الى علو الهمة .
- نبذ الاسلام للكسل والخمول.
الموضـــــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾التوبة 105) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ:" شَبَابُكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتُكَ قَبْلَ سِقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغُكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتُكَ قَبْلَ مَوْتِكَ". اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
إن من حسن الأخلاق وطيب الصفات، وعظيم القيم، التي دعا إليها الإسلام، علو الهمة؛ فالهمة العالية شرف ومقصد، تعلو به الأمم إلى أعالي القمم، وتصل به النفوس إلى محاسن الشيم، الهمة العالية هي سلم الرقي، وباب النجاح والتقدم والفوز، يجزى الله بها من صدق وان لم يوفق للعمل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ، فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا، فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا، فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا " رواه مسلم) وقد يسبق بها العبد إلى عظيم الدرجات ومضاعفة الحسنات، ولك أن تتدبر معي ذلك في قول خير البريات صلى الله عليه وسلم:" سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ " ، فَقَالَ رَجُلٌ : وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " رَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ أَخَذَ مِنْ عُرْضِهِ مِائَةَ أَلْفٍ ، فَتَصَدَّقَ بِهَا ، وَرَجُلٌ لَيْسَ لَهُ إِلا دِرْهَمَانِ ، فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا ، فَتَصَدَّقَ بِهِ "رواه ابن حبان) ولله در القائل :
على قدرِ أهلِ العزمِ تـأتِي العزائم *** وتأتِي علـى قــدرِ الكرامِ المكارمُ
وتكبر في عيـنِ الصغيـر صغـارُها *** وتصغرُ في عينِ العظيـمِ العظائمُ
ومن ينظر الكتاب والسنة يجد الدعوة الى علو الهمة في أمر الدنيا والاخرة قال تعالى ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾التوبة 105) ويقول عز وجل (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الحديد21) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:" الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَلَا تَعْجِزْ، فَإِنْ غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَإِيَّاكَ وَاللَّوْ، فَإِنَّ اللَّوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ " رواه ابن ماجه)
ولقد أثنَى الله سبحانه وتعالى على انبيائه بعلو همتهم وقوة عزيمتهم، فقال تعالى ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾الأحقاف 35)وقال سبحانه (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ )الأنبياء90)
وكما مدح القران الكريم اصحاب الهمم العالية، ذم ضعفاء العزيمة، المستسلمون للشيطان، القابعون في الأهواء، مفتورى الهمة، فاقدي الإرادة ،قال تعالى ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الأعراف175، 176)
ولأن الكسل والخمول لا يصح لأهل المروءات، فقد كان من أوائل ما نزل من القران على نبينا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾المزمل1، 2) فلقد كان صلى الله عليه وسلم مثالا أعلى في علو الهمة، فعَنْ عُقْبَةَ ابن الحارث، قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ:" ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ" رواه البخاري) كما تراه صلى الله عليه وسلم لا يترك وقتا إلا ويعظ فيه اصحابه، ويذكرهم بربهم، ويدعوهم الى علو الهمة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا "؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه :أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" رواه مسلم ) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ (أي: التبكير) لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا" رواه البخاري ومسلم) ولما سأله رَبِيعَةُ بْن كَعْب الأَسْلَمِيُّ مرافقته في الجنة فدله على علو الهمة وقوة العزيمة، قائلا " فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ، بِكَثْرَةِ السُّجُودِ " كما يقول  صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وسلم" إِذَا سَأَلْتُم اللهَ الجَنَّةَ فَاسْأَلوهُ الفِرْدَوْسَ فَإِنَّه أَعْلَى الجَنَّةِ وأَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَمِنْهُ تُفَجِّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ".
وهذا ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، من علو للهمة وقوة للعزيمة، فمن ذلك ما كان من بلال ضي الله عنه؛ فعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أبيه، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " سَمِعَ خَشْخَشَةً أَمَامَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: بِلالٌ ، فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ : بِمَ سَبَقْتَنِي إِلَى الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَحْدَثْتُ إِلا تَوَضَّأْتُ ، وَلا تَوَضَّأْتُ إِلا رَأَيْتُ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ أُصَلِّيهُمَا ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِهَا "رواه ابن حبان)
فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى الناس همة وأعلاهم إقداما وأحرصهم على فعل الخير والتسابق إليه والتنافس فيه، فلقد سادت روح المنافسة في الخيرات بينهم، فعلت همتهم في خدمة دينهم ووطنهم، فهذا طلحة الأنصاري كما جاء عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنه قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِد، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) سورة آل عمران آية 92)، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) سورة آل عمران آية 92) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا ، وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ : وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ "رواه البخاري) وهذا ابو الدحداح رضي الله عنه ؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) سورة البقرة آية 245)، قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ ؟ قَالَ :" نَعَمْ، يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، قَالَ: أَرِنَا يَدَكَ، قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَحَائِطُهُ فِيهِ سِتُّ مِائَةِ نَخْلَةٍ، فَجَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهَا، وَعِيَالُهَا، فَنَادَى، يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ، فَقَالَ: اخْرُجِي، فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي " مجمع الزوائد؛ للهيثمي)
ولقد كان ابو بكر رضي الله عنه فطنا لهذه القيمة النبيلة، كما فطن اليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن عمر أنه قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:" مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا" كما روى أبو نُعيم( في حلية الأولياء)أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه خرج في سواد الليل فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: أنه يتعاهدني منذ كذا وكذا يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة أعثرات عمر تتبع". وما أعظم ما كان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما دخل المسجد فرأى اناسا قابعين في المسجد ينتظرون الرزق فكلمهم بقول حريص على اعلاء الهمم:" لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضةً، وإن الله تعالى يقول(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الجمعة:10)
وتدبر ما يقوله انس رضي الله عنه اذ يصف علو همة الصحابة رضي الله عنهم في حفظ النفس ومحاسبتها وتهذيبها:" إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ" رواه البخاري)
ومن ثم فان علو الهمة لا يقف في جانب من جوانب الحياة بل يتسع ليشمل كل جوانب الحياة ولعل من هذه الجوانب :
- التقرب الى الله جل وعلا بالفرائض والنوافل؛ فقد قال سبحانه (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)آل عمران133) وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ وَقَالَ: اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ" رواه البخاري).
- العلم، فهو من ركائز وأسس البناء والرفعة والتقدم، ولا يمكن أن تبنى حضارة دون أن يكون أحد أركانها العلم؛ ولله در القائل :
العلم يرفع بيوتا لا عماد لها *** والجهل يهدم بيوت العز والكرم
لذلك ولغيره، كانت دعوة الإسلام إلى العلم والتأكيد عليه؛ حتى كان أول آيات نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم تدعو إلى العلم، قال تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )العلق1-5) فيما يجب أن نعلم أن العلم لا يقف عند العلوم الشرعية، بل يشمل كل علم نافع في جميع المجالات التي فيها مصلحة البشرية، وتيسير أمور حياتها؛ فحينما مدح الله تعالي داود وسليمان في القران بالعلم فقال( ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ) النمل 10) كان منه صناعة الحديد، ومنه منطق الطير كما قال تعالى (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) النمل16) كما أن قوله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )فاطر28) جاء في معرض الحديث عن العلوم الكونية إذ يقول الله جل وعلا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا  وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ )فاطر 27/28) ؛ مما يدل على اهتمام الإسلام ودعوته إلى العلم النافع في جميع المجالات .
- العمل : فالقوة الاقتصادية ضرورية في تقدم الامم وهى عماد أول من أعمدة البناء وعامل أول من عوامل القوة، ولن يقوى الاقتصاد في امة إلا بالعمل والإنتاج؛ ولذا أمرنا الإسلام أن نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في العمل والإنتاج حتى في أحلك الظروف؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " الأدب المفرد للبخاري) وفى سطور تكتب بماء الذهب، ترى هدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع من أهمل وعطل طاقته؛ إذ دعاه أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، وأن يستنفد ما يملك من حيل وإن ضؤلت؛ فعن أنس: أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم يسألُه، فقال:" أما في بيتك شيءٌ؟" قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ نَشربُ فيه الماءَ، قال: "ائتني بهما"، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: "من يشتري هذين؟" قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قالَ: "من يزيدُ على درهمٍ؟" -مرتينِ أو ثلاثاً-، قالَ رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ: "اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به"، فأتاه به، فشدَّ فيه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: "اذهب فاحتطِب وبع، ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً"، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ" رواه أبو داودَ والترمذيِّ وحسنَّه)
واذا تحدثنا عن العمل فان قرينه الاتقان، إذ أن إتقان العمل، وتجويده، من أهم الواجبات العملية التي حث عليها الإسلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم" إِنَّ اللهَ عز وجل يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ ".
- تقديم الخير للمجتمع: فقد قال الله تعالى ( فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ) البقرة 148) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا.
- خدمة الوطن والوفاء له: فالوفاء للوطن مرتبط بعمل الفرد وسلوكه ارتباطا لا انفكاك منه، يلازمه في كل مكان، في حله وترحاله، في المنزل والشارع، وفي مقر عمله، فيظهر في احترام أنظمته وقوانينه، يظهر بالمحافظة على منشآته ومنجزاته، بالمحافظة على أمواله وثرواته، بنشر الخير والقيم والأخلاق الفاضلة، بنشر روح المحبة والأخوة والتكافل والتراحم بين أبنائه فقد قال الله تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )المائدة2)، يظهر في مناهضة الأفكار المتطرفة، ففي مناهضتها توجيها للعقول والقلوب إلى الوسطية والاعتدال والمحبة والمودة، يظهر في عدم ترديد الشائعات وترويجها، يظهر في التنافس في خدمة الوطن كل حسب طاقاته وقدراته والمحافظة على أمنه واستقراره، بأن يكون كل منا قدوة للأبناء والأجيال في حب الوطن وخدمته والحفاظ عليه والدفاع عنه والبر به .
ان ديننا لا يرضى لنا الكسل والخمول، وضعف الهمة والفتور، فما اصاب الكسل امة إلا أضعفها، ولا اصاب جسدا إلا أوهنه، ومن ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابُكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتُكَ قَبْلَ سِقَمِكَ ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ، وَفَرَاغُكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتُكَ قَبْلَ مَوْتِكَ".إذ أن ضعف الهمة يفوت على الفرد المصالح والمنافع، ويفسد عليه التقدم والنجاح، ولذلك يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته" ولله در القائل :
وَلَمْ أَرَ فِيْ عِيُوْبِ النَّاسِ عَيْبَاً *** كَنَقْصِ الْقَادِرِيْنَ عَلى الْتَّمَام

اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت،
 واصرف عنِّي سيِّئها، لا يصرف عنِّي سيِّئها إلا أنت
وأحفظ مصر من كل مكروه وسوء .

===== كتبه =====
محمد حســــن داود
إمام وخطيب ومدرس

google-playkhamsatmostaqltradent