recent
آخر المشاركات

خطبة الجمعة القادمة : حـــق الوطــــــن للشيخ / محمد حســــن داود (3 ربيع الآخر 1444هـ - 28 أكتوبر 2022م)

 

خطبة بعنـوان: حـــق الوطــــــن
للشيخ / محمد حســــن داود

(3 ربيع الآخر 1444هـ - 28 أكتوبر 2022م)

العناصــــــر:      مقدمة :

- الوطن نعمة من أعظم النعم.
- نماذج من حب النبي (صلى الله عليه وسلم) لوطنه.
- صور من حقوق الوطن.
- دعوة إلى تحقيق معاني الحب والوفاء للوطن.

الموضــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة ٢) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

إن من أعظم النعم وأجلها أن يكون للإنسان وطن يعيش تحت ظلاله، ويتنفس هواءه، يجد فيه معنى السكينة، وحقيقة الطمأنينة، فيه تتصل أمجاد الأجداد بالأحفاد، وتتلاحم قلوب الأهل والأحباب، فالوطن نعمة جليلة ومنة عظيمة؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر في كتاب الله (جل وعلا)، فقد قرن خروج الجسد من الوطن بخروج الروح من الجسد، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) (النساء66)؛ من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فليتدبر جيدا قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها " (رواه البخاري في الأدب المفرد) من أراد أن يعرف علو قدرها وسمو مكانتها، فلينظر إلى حال من فقدها، وليتدبر قيمتها في ميزان من حرمها؛ فهي مهد الصبا ومدرج الخطى ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، ومنبع الذكريات، وموطن الآباء والأجداد، ومأوى الأبناء والأحفاد، فكم زلزلت بحب الأوطان مكامن وجدان، وأطلق حبها قرائح شعراء، وسكبت في حبها محابر أدباء، وضحى من أجلها بالغالي والنفيس الأوفياء.

وإننا لنجد في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسمى الأمثلة لحب الوطن، وترجمته في الواقع عملا وبناء، حماية ودفاعا وتضحية، فلقد وجه المصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلى إجادة الانتماء للوطن، وحسن الولاء والانتماء له، وإخلاص الوفاء له، داعيا إلى ترجمة هذا الحب إلي عمل وجد من أجل الوطن، وحفاظا عليه، ودفاعا عنه؛ إذ يلقى درسا بليغا يقرع كل الآذان، ويتردد صداه في كل زمان ومكان, وذلك عندما خرج مهاجرا، ووصل أطراف مكة، التفت إليها، وقال "وَاللهِ إِنَّي أَعْلَمُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبَّهَا إِلَى اللهِ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" وفي رِوَاية "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِليَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُوُنِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ". وفي المدينة يتوجه إلى الله داعيا أن يحببها إليهم كما حبب إليهم مكة، كما في (صحيح البخاري) عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا)، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ".

 فلقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعيش هذا الحب والانتماء الوطني بكل وجدانه وجوارحه؛ فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ)، انه قَالَ" كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ - أَيْ أَسْرَعَ بِهَا - وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا ".

 يا له من حب، ويا له من انتماء فللمولى سبحانه الحمد على نعمة الوطن، هذه النعمة التي لا تقدر بالأموال، ولا تساوم بالأرواح، بل تبذل الأموال لأجلها وترخص الأرواح في سبيل حمايتها، وهذا من أعظم حقوق الوطن، ولقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "عَينانِ لا تمَسَّهما النَّارُ: عينٌ بكت من خشيةِ اللهِ، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيل اللهِ"، وقال أيضا: "أَلا أُنَبِّئُكُمْ بليلةٍ أفضلَ من ليلةِ القدرِ ؟ حارِسُ الحَرَسِ في أرضِ خَوْفٍ لعلَّهُ ألَّا يرجعَ إلى أهلِهِ".

ومن ثم فحقوق الوطن وحبه سلوك وواجبات وتضحيات بالغالي والنفيس، ولا يقف هذا الحب عند كلمات نرددها:

- فمن حقوقه أيضا: المشاركة في بنائه بالعمل وإتقانه، فلا شك أن القوة الاقتصادية ضرورية في تقدم الأوطان، وهى عماد أول من أعمدة البناء، وعامل أول من عوامل القوة، ولن يقوى الاقتصاد في أمة إلا بالعمل والإنتاج، ولذا أمرنا الإسلام أن نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في العمل والإنتاج حتى في أشد الظروف؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، قَالَ "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا " (الأدب المفرد للبخاري) ولو نظرت في كتاب الله (سبحانه وتعالى) لوجدت أن الله (جل وعلا) حث على العمل بعد الأمر بالصلاة، ولعل في ذلك إشارة قوية لأهمية ومكانة العمل، قال تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الجمعة 10)، فكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ (رضي الله عنه) إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ " اللَّهُمَّ إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ".

وإذا كان العمل من أعظم أسباب التقدم؛ فإن ذلك لن يتحقق إلا بإتقان العمل، ولقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم)" إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ ".

- ومن حق الوطن على أبنائه: التكافل والتراحم فيما بينهم؛ فمما لا شك فيه أن التكافل بين أبناء المجتمع من مقومات البناء، وزرع المحبة والمودة في القلوب، ولقد قال الله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة ٢) ويقول صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى".  وعن أَبي سعيدٍ الخُدريِّ (رضي الله عنه) قَالَ: بينَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) إِذ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَال رسولُ اللَّه (صلى الله عليه وسلم):" مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ، وَمَن كانَ لَهُ فَضْلٌ مِن زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَن لا زَادَ لَهُ، فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأحدٍ مِنَّا في فَضْلٍ" (رواه مسلم) وتدبر كيف كان هذا التكافل سببا أن يمدح النبي (صلى الله عليه وسلم) الأشعريين: إذ يقول: "إنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ، جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ، بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ" (رواه مسلم) ولهذا الأجر والفضل كان الصحابة (رضي الله عنهم) ومن بعدهم من السلف الصالح على مثل هذا، فقد ذكر الحسن البصري (رحمه الله)" أنه أدرك أقواماً يتصدَّقون بنصف أقواتهم الضرورية على مَنْ هم أقلُّ حاجة منهم".

- الحفاظ على المال العام والمرافق العامة: فالمال العام حرمته عظيمة، فهو أشد في حرمته من المال الخاص؛ لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له، قال تعالى (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (أل عمران161). ولقد أنزله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) منزلة مال اليتيم الذي تجب رعايته وتنميته وحرمة أخذه والتفريط فيه أو الاعتداء عليه عندما قال "إني أنزلتُ نفسي مِن مال الله منزلةَ اليتيم "، ولك أن تنظر كيف توعد النبي (صلى الله عليه وسلم) من يعتدي عليه، إذ يقول: "وإنَّ رجالًا يَتخوَّضونَ في مالِ اللَّهِ ورسولِهِ بغَيرِ حقٍّ لَهُمُ النَّارُ يومَ القيامةِ".

- عدم احتكار السلع: فاحتكار السلع سلوك ذميم يحمل في طياته الضرر، والنبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "لا ضرر ولا ضرار"، كما أنه دليل على محبة الذات وتقديم النفس على  حساب الآخرين، ولقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)" لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (رواه البخاري) حب لا أثرة فيه ولا استغلال، ولا غش، ولا تدليس أو احتكار، وهذا ما كان عليه الصحابة والسلف الصالح؛ فعن بعض السلف أنه جهز سفينة حنطة إلى البصرة وكتب إلى وكيله: بع هذا الطعام في يوم تدخل البصرة فلا تؤخره إلى غد، فوافق السعر فيه سعة، فقال له التجار: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافاً، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا قد كنا قنعنا أن نربح الثلث مع سلامة ديننا، وإنك قد خالفت أمرنا وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي فخذ المال كله فتصدّق به على فقراء أهل البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليّ ولا لي. (إحياء علوم الدين للغزالي)

 فللتجارة في الإسلام بُعدا لا يقف عند كونها مجرد سعي للكسب والربح، بل هي عامل من عوامل ترابط العلاقات الاجتماعية، ضرورة لاستمرار الحياة الإنسانية، وهناك من الصحابة والسلف الصالح من اتخذها سببا لكشف الكرب ومعاونة المحتاج، كعثمان بن عفان (رضي الله عنه)، فكيف يصل الأمر إلى الإحتكار، والنبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول: "لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ" (رواه مسلم).

إن حق الوطن مرتبط بعمل الفرد وسلوكه ارتباطا لا انفكاك منه، يلازمه في كل مكان، في حله وترحاله، في المنزل والشارع، فيظهر في إخلاص الوفاء للوطن، في احترام أنظمته وقوانينه، في التشبث بكل ما يؤدي إلى وحدة الوطن وقوته، كما يظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته، وفي الاهتمام بنظافته وجماله، يظهر في عدم السعي خلف الشائعات التي يسعى مروجيها إلى النيل منه، يظهر في مناهضة الأفكار المتطرفة، يظهر في التنافس في خدمة الوطن كل حسب طاقاته وقدراته، والمحافظة على أمنه واستقراره، يظهر في أن يكون كل منا قدوة للأبناء والأجيال في حب الوطن وخدمته والحفاظ عليه والدفاع عنه والبر به والوفاء له.

نسألك اللهم أن تحفظ مصر من كل مكروه وسوء
وأن تجعلها سخاء رخاء أمنا أمانا يا رب العالمين

=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----        اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى)  اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----         اضغط هنا 


لتحميــل الخطبة  word   جوجل درايف    -----        اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word جوجل درايف (نسخة أخرى)  اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf    جوجل درايف     ----         اضغط هنا

 

google-playkhamsatmostaqltradent