خطبة بعنوان :
سبل بناء الأمم وتقدمها
للشيخ / محمد حســــن داود
الموضوع : الحمد لله رب العالمين، القائل
في كتابه العزيز(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ )التوبة105) وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل في حديثه الشريف
"عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ
بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله"رواه الترمذي وحسنه) اللهم صل وسلم وبارك عليه
وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فان لتقدم الأمم أسس وركائز عليها تقوم الأمم وتبنى وترتقي ، ومن أهم
هذه السبل:
العلم : فهو من ركائز وأسس بناء الأمم ورفعتها
وتقدمها، وبه تتفاضل الأمم، كما تتفاضل به الناس؛ فقد قال تعالى﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) سورة الزمر9).
ولله در القائل :
العلم يرفع بيوتا لا عماد لها *** والجهل
يهدم بيوت العز والكرم
فلا يمكن أن تبنى حضارة دون أن يكون أحد
أركانها العلم ؛ فبالعلم تتطور الأمم والمجتمعات وتنهض وتتقدم؛ وإن الناظر في تاريخ
الأمم، قديمها وحديثها، يلاحظ أن تحضرها ورقيها كان مرتبطا بالعلم ارتباطا وثيقا؛ لذلك
ولغيره حث الإسلام على العلم وأكد عليه حتى كان أول آيات نزلت على النبي صلى الله عليه
وسلم داعية إلى العلم، قال تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ
الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )العلق1-5) وحتى قال النبي صلى الله عليه
وسلم لِأَبِي ذَرٍّ " يَا أَبَا ذَرٍّ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ بَابًا مِنَ
العِلْمِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ " ( أَيْ مِنَ النَّوافِل)
رواه ابن ماجه) بل انك لن تجد أن الله تعالى أمر بالاستزادة من شيء كما أمر بالاستزادة
من العلم؛ قال تعالى (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ) طه114) وحتى في حالة الحرب لم
يهمل الإسلام العلم بل دعا اليه وحث عليه ، فقد قال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ
فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ
)التوبة122) ولذلك قال الإمام الشافعي رضي الله عنه " إِنَّ الاِشْتِغالَ بِطَلَبِ
العِلْمِ أَفْضَلُ ما تُنْفَقُ فِيهِ نَفائِسُ الأَوْقاتِ " لأن نفع العلم يعم
صاحبه بل والأمة جميعها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء ، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت
صاحبه، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ
انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ
، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " رواه مسلم)
و العلم ميراث النبوة : ففي الحديث
:" وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ
يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ
أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"، كما أن في العلم حفظ العقول مما يفسدها ويضر بها، من
تصورات خاطئة وأفكار متطرفة ولا شك أن حفظ العقول من التصورات الخاطئة، ومناهضة
الأفكار المتطرفة من أعظم سبل البناء
والتقدم والرقى .
ولقد بين القرآن الكريم مكانة من سلكوا
طريق العلم واتخذوه سبيلا للتقدم والرقى والبناء والتعمير، فقال الله سبحانه وتعالى
( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)المجادلة 11) وقال جل وعلا( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ
لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )آل عمران 18) والعلماء هم من فازوا بالخيرية
التي حددها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله من حديث مُعَاوِيَةَ - رضي الله
عنه – "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ"رواه
البخاري)، فمن سلك طريقا يبتغى فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة كما قال رسولنا
صلى الله عليه وسلم "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ
بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً
لِطَالِبِ الْعِلْمِ " كما أن العلماء يستغفر لهم من في السماوات ومن في الأرض
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ
مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ"،
كما يظهر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مقام العالم من العابد فيقول " وَفَضْلُ
الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ"
فيما يجب أن نبين أن العلم الذي نقصده لا يقف عند العلوم الشرعية بل هو كل علم نافع
في جميع المجالات التي فيها منفعة للأمة، وتيسير أمور حياتها؛ كالطب والهندسة ، والرياضيات،
والميكانيكا، والتكنولوجيا، والبناء، والزراعة،
والصناعة ... وغير ذلك من التخصصات والمجالات .
-
ومنها: العمل : فالقوة الاقتصادية ضرورية في تقدم الأمم وهى عماد أول من أعمدة
البناء وعامل أول من عوامل القوة ، ولن يقوى الاقتصاد في امة إلا بالعمل والإنتاج ؛
ولذا أمرنا الإسلام أن نبذل الجهد وان نستفرغ الوسع والطاقات والمواهب في العمل والإنتاج
حتى في أحك الظروف؛ حتى وجهنا الإسلام أن قيام الساعة لا ينبغي أن يحول بيننا وبين
القيام بعمل فيه نفع للبلاد والعباد، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي
يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا
فَلْيَغْرِسْهَا " الأدب المفرد للبخاري) ولو نظرت في كتاب الله تعالى لوجدت
أن الله جل وعلا حث على العمل وطلب الرزق بعد الأمر بالصلاة، ولعل في ذلك إشارة
قوية لأهمية ومكانة العمل قال تعالى (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ (الجمعة 10)، فكان سيدنا عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ ،رضي الله عنه إِذَا صَلَّى
الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ " اللَّهُمَّ
إِنِّي أَجَبْتُ دَعْوَتَكَ وَصَلَّيْتُ فَرِيضَتَكَ، وَانْتَشَرْتُ كَمَا أَمَرْتَنِي،
فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" ومن ثم يظهر جليا أن
الإسلام اهتم اهتماما بالغا بكل ما كان من أثره تقدم الأمم، وعلو شأنها ورفعتها، وفى
سطور تكتب بماء الذهب، ترى هدى الرسول صلى الله عليه وسلم مع من أهمل وعطل طاقته ؛
إذ دعاه أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، وأن يستنفد ما يملك من حيل وإن ضؤلت؛
فعن أنس: أن رجلاً من الأنصارِ أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم يسألُه، فقال:
" أما في بيتك شيءٌ؟" قال: بلى، حِلسٌ نلبسُ بعضَه، ونبسُط بعضَه، وقَعبٌ
نَشربُ فيه الماءَ، قال: "ائتني بهما"، قالَ: فأتاه بهما، فأخذَهما رسولُ
اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده، وقالَ: "من يشتري هذين؟" قالَ رجلٌ: أنا
آخذهما بدرهمٍ، قالَ: "من يزيدُ على درهمٍ؟" -مرتينِ أو ثلاثاً-، قالَ رجلٌ:
أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقالَ:
"اشتر بأحدهما طعاماً فأنبذه إلى أهلك، واشتر بالآخرِ قَدوماً فأتني به"،
فأتاه به، فشدَّ فيه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قالَ: "اذهب فاحتطِب وبع،
ولا أرينَّكَ خمسةَ عشرَ يوماً"، فذهبَ الرجلُ يَحتطبُ ويبيعُ، فجاءَ وقد أصابَ
عشرةَ دراهمٍ، فاشترى ببعضِها ثوباً وببعضِها طعاماً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم: "هذا خيرٌ لك من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهكَ يومَ القيامةِ، إن المسألةَ
لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ، لذي فقرٍ مُدقِعٍ، أو لذي غُرمٍ مُفظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجعٍ"
رواه أبو داودَ والترمذيِّ وحسنَّه)
كما أن الصحابة الأخيار كانوا دائما في
حرص على العمل واستثمار طاقاتهم ومواهبهم وهذا يظهر جليا في فعل عبد الرحمن بن عوف؛
فقد روى أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ
المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ
وَمَالَهُ، فَقَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ
دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ، فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟"
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ:
"فَمَا سُقْتَ فِيهَا؟" فَقَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" رواه البخاري
ومسلم ).وعلى هذا كان السلف الصالح فقد روي أن الأوزاعى لقي إبراهيم بن أدهم رحمه الله
وعلي عنقه حزمة حطب، فقال له: يا أبا إسحاق إلى متى هذا ؟! إخوانك يكفونك ، فقال :
دعني عن هذا يا أبا عمرو ، فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له
الجنة.
ولم يكن شدة حب الصحابة رضي الله عنهم للعمل
يقف عند المداومة عليه بل كان الكسل والخمول سببا لسقوط الرجل من عيونهم، إذ يقول عمر
بن الخطاب رضي الله عنه " أني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا
سقط من عيني " وهذا قوله رضي الله عنه عندما دخل المسجد فوجد من يجلس بلا عمل
فتوجه له قائلا : لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء
لا تمطر ذهباً ولا فضة ".
فلقد كان لأولئك - رضوان الله عليهم - دور
بارز في مجتمعهم في كافة الميادين،لما استثمروا طاقاتهم ومواهبهم في خدمة ووطنهم فإن
الأمم لن تزدهر ولن ترقى ولن تتقدم إلا باستثمار طاقة أبناءها كل حسب قدراته ومواهبه
، فاليد التي لا تعمل عملا ولا تزاول حرفة ولا تسهم في التعمير والبناء وتقدم الأمة
هي يد شلاء، وإن العقل الذي لا يسهم في عمل أو اختراع وابتكار وإبداع وتجديد هو عقل
أغفل مهمته، وفقد رسالته، روى أن شقيق البلخي، ذهب في رحلة تجارية، وقبل سفره ودع صديقه
إبراهيم بن أدهم حيث يتوقع أن يمكث في رحلته مدة طويلة، ولكن لم يمض إلا أيام قليلة
حتى عاد شقيق ورآه إبراهيم في المسجد، فقال له متعجباً: ما الذي عجّل بعودتك؟ قال شقيق:
رأيت في سفري عجباً، فعدلت عن الرحلة، قال إبراهيم: خيراً ماذا رأيت؟ قال شقيق: أويت
إلى مكان خرب لأستريح فيه، فوجدت به طائراً كسيحاً أعمى، وعجبت وقلت في نفسي: كيف يعيش
هذا الطائر في هذا المكان النائي، وهو لا يبصر ولا يتحرك؟ ولم ألبث إلا قليلاً حتى
أقبل طائر آخر يحمل له العظام في اليوم مرات حتى يكتفي، فقلت: إن الذي رزق هذا الطائر
في هذا المكان قادر على أن يرزقني، وعدت من ساعتي، فقال إبراهيم: عجباً لك يا شقيق،
ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى الكسيح الذي يعيش على معونة غيره، ولم ترض
أن تكون الطائر الآخر الذي يسعى على نفسه وعلى غيره من العميان والمقعدين؟ أما علمت
أن اليد العليا خير من اليد السفلى؟ فقام شقيق إلى إبراهيم وقبّل يده، وقال: أنت أستاذنا
يا أبا إسحاق، وعاد إلى تجارته .
إن الأمم لا تتقدم بالكسل والخمول، بل إن
النجاح والتقدم مرتبط باستثمار الطاقات و المواهب وعدم تعطيلها، مرتبط بالعمل الذي
ينفع الأمة، غير أن هذا العمل يعود على صاحبه بالرزق الحلال الذي يضمن للإنسان الحياة
الكريمة ،ولقد قال النبي صلى الله علليه وسلم "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ
خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاودَ كَانَ
يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ".وفيه تلبية حاجات الإنسان الأساسية من مسكن ومأكل
وملبس وزواج وتربية الأطفال والإنفاق على من يعول وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ
يَقُوتُ " رواه ابن حبان). كما أن العمل والبناء سبيلٌ لتحقيق الأجر والثواب ولقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلمٍ يغرسُ غرساً أو يَزْرَعُ زَرْعاً
فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلاَّ كان له به صدقة " غير انه لولا العمل
وكسب الرزق لما استطاع الإنسان الصدقة والإحسان بماله، ولقدد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلَا
يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ
ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ
مِثْلَ الْجَبَلِ " ومن ثم فان الكسل والخمول و ضعف الهمة تفوت على الفرد مصالح ومنافع
كثيرة، ولذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله
عنه " لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته " .
وإذا كان العمل من أعظم أسباب تقدم الأمم فان ذلك
لن يتحقق إلا بإتقانه، إذ أن إتقان العمل، وتجويده، من أهم الواجبات العملية التي حث
عليها الإسلام، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: " إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ
يُتْقِنَهُ " وفي رواية : ( إن الله تعالى يُحب من العامل إذا عمل العمل أن يُحسن
" (رواه البيهقي في الشعب).
ومنها :مكارم الأخلاق: إذ أن الأخلاق الحسنة
الطيبة من صدق وأمانة، ... وغير ذلك من مكارم الأخلاق لهي أساس عظيم لبناء الأمم فالسلوك
الحسنة من شأنها أن تبني مجتمعًا قويا متماسكا لا تنال منه يد الأعداء، وما أجمل قول
الشاعر
إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت** فإن هم ذهبت
أخلاقهم ذهبوا
ومن ينظر في الشريعة الإسلامية ليجد
اهتمامها الشديد بمكارم الأخلاق ، بل لا تعجب إن قلت لك أن غاية هذه الرسالة هي إتمام
وإصلاح مكارم الأخلاق، فهاهو النبى صلى الله عليه وسلم، يعلن هذا قائلا " إنَّما
بُعِثْتُ لأُتَمَّمَ صالحَ الأخلاقِ" رواه أحمد ) وحرى بنا أن نذكر أن الأخلاق
التي تتقدم بها الأمم لا تشمل ترويج الشائعات والأراجيف والأباطيل ؛ فقد قال تعالى(إِنَّ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
النور19) بل إن السلوك التي نحتاجها هي التي تبنى ولا تهدم، فليكن منهج كل واحد منا عند الحديث قول الرسول صلى
الله عليه وسلم "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ
خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". وليكن منهج كل واحد منا في سمعه قول الله عز وجل(يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)الحجرات6)
ومنها : التضحية: فلا شك أن سمو الأهداف
وشرف المقاصد ونبل الغايات تقتضي سمو التضحيات وشرفها ورقي منازلها ؛ والتضحية من اجل
الوطن على ألوان ومجالات منها: التضحية بالنفس وما اشرف هذه المنزلة وأعلاها إذ يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم "عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ
مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ الله"رواه الترمذي
وحسنه) ويقول أيضا " رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ
وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ" رواه مسلم )ومنها التضحية بالمال فقد قال تعالى
( وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) البقرة195) ومنها التضحية
بالوقت في بذل ألوان الخير ومن ذلك قضاء حوائج الناس فلقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم " أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس "
إن خدمة الأمم والأوطان وسبل تقدمها مرتبطة
بعمل الفرد وسلوكه ارتباطا لا انفكاك منه, يلازمه في كل مكان, في حله وترحاله, في المنزل
والشارع, وفي مقر عمله، فتظهر في تحقيق معاني الانتماء للوطن بمحبته والافتخار
به والحرص على سلامته، تظهر في احترام أنظمته وقوانينه, وفي التشبث بكل ما يؤدي إلى
قوته، تظهر في المحافظة على منشآته ومنجزاته , وفي الاهتمام بنظافته وجماله ، تظهر
في إخلاص العامل في مصنعه, والموظف في وظيفته, تظهر في نشر الخير، تظهر في المحافظة
على أمنه واستقراره, والدفاع عنه ، تظهر بنشر القيم والأخلاق الفاضلة ، تظهر بالعمل
والإنتاج من اجله ، تظهر في تضافر الجهود من اجل رفعته ، تظهر بالتنافس في خدمته كل
حسب طاقاته وقدراته، تظهر في أن يكون كل منا قدوة صالحة في نفسه، وبين أهله وأبناء
وطنه .
(اللهم أمنا في أوطاننا، وأحفظ مصرنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن )