خطبة بعنـــــوان :
الوفاء بالعقـود والعهــود
وحـــــــرمة التـلاعـب بهـا
للشيــــخ / محمد حســـــن داود
الوفاء بالعقـود والعهــود
وحـــــــرمة التـلاعـب بهـا
للشيــــخ / محمد حســـــن داود
العناصــــــــــر
الوفاء بالعقود والعهود، مكانته ودعوة الإسلام إليه .
من صور الوفاء بالعقود والعهود .
مواقف في الوفاء بالعهود .
اثر الوفاء بالعقود والعهود، وحرمة التلاعب بها .
الوفاء بالعقود والعهود، مكانته ودعوة الإسلام إليه .
من صور الوفاء بالعقود والعهود .
مواقف في الوفاء بالعهود .
اثر الوفاء بالعقود والعهود، وحرمة التلاعب بها .
الموضـــــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه
العزيز( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)المائدة1) ويقول
سبحانه (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾الإسراء 34) وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله،القائل
في حديثه الشريف "
آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا
اؤْتُمِنَ خَانَ ) رواه البخاري ومسلم)اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد :
لقد جاء الإسلام داعيا إلى أحسن الخلق وأجمل
الصفات، وأنبل القيم وأفضل السمات، ومن ذلك " الوفاء بالعهود والعقود " فهو
من أعظم الأخلاق واشملها ومن أسمى القيم وأحسنها، هو خلق يحمل في طياته أخلاق وأخلاق؛
قيمة تحمل في طياتها قيم وقيم، صفة تحمل في طياتها صفات وصفات؛ فمن نقض العهد فما صدق
وما اتقى ؛ وقد قال الله جل وعلا في صفات عباده أهل البر والصدق والتقوى(وَلَٰكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ
وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي
الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ
هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة 177) فالوفاء: اخو الصدق، والغدر: أخو الكذب؛ ذلك أن الوفاء
صدق اللسان والفعل سواء كان ذلك مع الله جل وعلا، أو مع الناس، أو مع النفس، بل والأعظم
من ذلك، أن الوفاء دليل على الإيمان، فقد قال الله جل وعلا مادحا المؤمنين ( وَالَّذِينَ
هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) المؤمنون 8 ) .
ولقد مدح الله جل وعلا بالوفاء الأنبياء
والصالحين، فقال في إبراهيم عليه السلام ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ النجم
37) و في إسماعيل عليه السلام ﴿ وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا
﴾ مريم 54) وها هو قدوتنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا الوفاء في أسمى المعاني؛ فعن حُذَيْفَةُ
بْنُ الْيَمَانِ قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ
أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ
تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ فَأَخَذُوا
مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلُ
مَعَهُ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ
الْخَبَرَ فَقَالَ انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ
" رواه مسلم) .
ولما كان الوفاء بالعهود والعقود قيمة إنسانية
كبيرة وأخلاقية عظيمة؛ فهو يقوى دعائم الثقة بين الناس، ويؤكد أواصر التعاون في المجتمع؛
جاءت الآيات والأحاديث تدعونا إلى الوفاء بالعهود والعقود؛ فقد قال الله جل وعلا ﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) المائدة1) وقال سبحانه (وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
﴾النحل 91) و عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، قَالَ : " اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ
الْجَنَّةَ : اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا
إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّوا
أَيْدِيَكُمْ " رواه احمد ) ومما يجلى لنا مكانة الوفاء بالعقود والعهود، أن كان
من أول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم،أن
هرقل - ملك الروم- ، سئل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ" فقال أبو سفيان
" يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَانَا
عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ
وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ " ... ومن صور الوفاء بالعقد
والعهد :
-
الوفاء بالعهد مع الله عز وجل؛ فهو أعلى درجات الوفاء وأسماها، وأجلها وأرقاها،
قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ
تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا
إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا
بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) الأعراف 172/ 173 )
- الوفاء مع النفس؛ ويتمثل ذلك في صدق الإنسان
مع نفسه، إن أساءت حاسبها وتاب، وان أحسنت ازداد ، ،وان يقوم على تقويمها وتزكيتها
قال تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) الشمس
9/10)
الوفاء بالعهد مع الناس : الوفاء بالعهد
مع الناس في أبسط معانيه هو محافظة الإنسان على ما يبرمه من وعود وعهود واتفاقات ونحوها؛ ومن صور ذلك : وفاء الأجير أجره دون مماطلة أو نقصان،
أو تعنيف أو حرمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم " قَالَ اللهُ تَعالَى: ثَلاثَةٌ أَنا خَصْمُهم يَوْمَ القِيامَةِ: رَجُلٌ
أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ
أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ " رواه البخاري). ومنها،
قضاء الدين، فإن الوفاء به واجب، واليه رغب النبي صلى الله عليه وسلم فقال "مَنْ
أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَها
يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ"، رواه البخاري ) كما حذرنا من المماطلة
بالحقوق فقال صلى الله عليه وسلم "مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ"رواه البخاري)
. ومنها الوفاء في الكيل والوزن ، قال تعالى (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) هود 85) وقال سبحانه (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ
* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو
وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) المطففين1-3)وغير ذلك من العقود والعهود والمعاملات؛ ولا
فرق في ذلك بين المعاملات الشخصية والمعاملات العامة بل إن الوفاء بالعقود تجاه المال
العام اوجب، ونقضها اشد إثما وجرما وذلك لكثرة الحقوق المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة
له؛ فإذا أبرم المسلم عقدا فيجب أن يحترمه،
وإذا أعطى عهدا فيجب أن يلتزمه، فمن الإيمان أن يكون المرء عند كلمته التي قالها، وأن
يعرف بين الناس بأن كلمته ميثاق غليظ، لا خوف من نقضها، وقد قال الله تعالى (وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾الإسراء 34)
ومن أجمل صور الوفاء بالعقود والعهود ما
كان بين الزوجين، فقد قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ
فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)الروم21) ويقول النبي صلى الله عليه
وسلم " أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ)
رواه البخاري ومسلم)
وما أعظم وازكي وأطيب الوفاء للوطن بالحفاظ
عليه والدفاع عنه والعمل الجاد على تقدمه ورقيه ورفعته، والتضحية من اجله، وكما يظهر
الوفاء للوطن في التضحية من اجله؛ يظهر أيضا
في إخلاص كل عامل في عمله، في نشر القيم والأخلاق الفاضلة ، يظهر في التنافس في خدمته
كل حسب طاقاته وقدراته، يظهر في احترام أنظمته وقوانينه، وطاعة ولى الأمر، يظهر في
التصدي للشائعات والأراجيف والأباطيل التي يقصد بها ملء القلوب من الفتن والمصائب،
وشحْن القلوب بالأحقاد والبغضاء على المجتمع والتشكيك في الانجازات، والبناء والتعمير،
يظهر في الحفاظ على الوحدة بين أبناء الوطن، يظهر في مناهضة كل دعوة هدامة، و مناهضة
الأفكار المتطرفة، يظهر في مضاعفة الجهد في العمل والإنتاج، فالعمل من العوامل الرئيسية
للتقدم والرقي.
ومن ينظر التاريخ والسير، يجد أجمل المواقف
وأروعها، في الوفاء بالعهود والعقود، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في حياة
الصالحين؛ أمرا يحثنا ويدعونا إلى السير على هذا الهدى النبوي الكريم، ومنه :
- ما جاء في قصة الحديبية، وفي ذلك الصلح
الذي أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم، مع مندوب قريش سهيل بن عمرو، فقد كان من بنود
هذا الصلح أنه من يأتي إلى النبي ، من قريش خلال مدة الصلح يرده إليهم وإن كان مسلما،
وقد جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو بن يوسف في الحديد، كان أبوه قد حبسه فأفلت، فلما
رآه سهيل قَالَ: " يَا مُحَمَّدُ ، قَدْ وَلَجَتِ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا . قَالَ :
" صَدَقْتَ "، ثم وجه النبي صلى الله عليه وسلم قوله إلى أبى جندل فقال
" اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ
مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، إِنَّا قَدْ صَالَحْنَا هَؤُلاءِ
الْقَوْمَ وَجَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الْعَهْدُ ، وَإِنَّا لَا نَغْدِرَ
"
- عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : ابْتَاعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ
جَزُورًا ، أَوْ جَزَائِرَ ، بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ ، وَتَمْرُ الذَّخِرَةِ
الْعَجْوَةُ ، فَرَجَعَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
بَيْتِهِ ، وَالْتَمَسَ لَهُ التَّمْرَ ، فَلَمْ يَجِدْهُ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ : " يَا عَبْدَ اللَّهِ
، إِنَّا قَدْ ابْتَعْنَا مِنْكَ ، جَزُورًا أَوْ جَزَائِرَ ، بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ
الذَّخْرَةِ ، فَالْتَمَسْنَاهُ ، فَلَمْ نَجِدْهُ " ، قَالَ : فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ
: وَاغَدْرَاهُ . قَالَتْ : فَنَهَمَهُ النَّاسُ ، وَقَالُوا : قَاتَلَكَ اللَّهُ ،
أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَتْ : فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعُوهُ ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ
الْحَقِّ مَقَالًا " ، ثُمَّ عَادَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : " يَا عَبْدَ اللَّه ، إِنَّا ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزَائِرَكَ
وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ عِنْدَنَا مَا سَمَّيْنَا لَكَ ، فَالْتَمَسْنَاهُ ، فَلَمْ
نَجِدْهُ " ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : وَاغَدْرَاهُ ، فَنَهَمَهُ النَّاسُ ،
وَقَالُوا : قَاتَلَكَ اللَّهُ أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعُوهُ ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا
" ، فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ
، أَوْ ثَلَاثًا ، فَلَمَّا رَآهُ لَا يَفْقَهُ عَنْهُ ، قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
: " اذْهَبْ إِلَى خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ ، فَقُلْ لَهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكِ : إِنْ كَانَ عِنْدَكِ وَسْقٌ
مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ ، فَأَسْلِفِينَاهُ حَتَّى نُؤَدِّيَهُ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ " ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ ، فَقَالَ
: قَالَتْ : نَعَمْ ، هُوَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهُ
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ : "
اذْهَبْ بِهِ ، فَأَوْفِهِ الَّذِي لَهُ " قَالَ فَذَهَبَ بِهِ ، فَأَوْفَاهُ
الَّذِي لَهُ ، قَالَتْ : فَمَرَّ الْأَعْرَابِيُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا
، فَقَدْ أَوْفَيْتَ وَأَطْيَبْتَ ، قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أُولَئِكَ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الْمُوفُونَ الْمُطِيبُونَ " رواه احمد) .
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُ ذَكَرَ
رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ
أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ : ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ ، فَقَالَ : كَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا ، قَالَ : فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ ، قَالَ : كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا
، قَالَ : صَدَقْتَ ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ
فَقَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ
الَّذِي أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا ، فَأَدْخَلَ
فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا
، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي
كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاَ ، فَقُلْتُ :
كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا ، فَرَضِيَ بِكَ ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا ، فَقُلْتُ : كَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا ، فَرَضِيَ بِكَ ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ
إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا ، فَرَمَى بِهَا
فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ
مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ
، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي
فِيهَا المَالُ ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا ، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ
وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ
، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ
، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ ، قَالَ : هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ
إِلَيَّ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي
جِئْتُ فِيهِ ، قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ
، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا " رواه البخاري) .
إن للوفاء بالعهود أثرا جليلا على العبد
في دنياه وأخراه فهم خير الناس كما قال صلى الله عليه وسلم " أُولَئِكَ خِيَارُ
عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوفُونَ الْمُطِيبُونَ
" رواه احمد) ففي الوفاء بالعهود محبة
الله جل وعلا قال سبحانه ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ آل عمران 76) وفيه تعظيم الأجور وقد قال الله تعالى ﴿ وَمَنْ
أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ الفتح 10)
وفيه الفوز والفلاح فقد قال الله تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ
* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ ) المؤمنون 8-11 ) غير أن به تصان الأعراض والأرواح ،وتصل الحقوق
إلى أصحابها كما أن له أثرا بالغا على المجتمع إذ يقوى العلاقات والروابط بين أبناء
المجتمع وينشر قيم الثقة بينهم، فكل مجتمع ساد فيه الوفاء بالعهود ، كانت الأخوة والمودة
والألفة له عنوان والتقدم له فيه وسام.
إن المسلم يفي بعهده وعقده ووعده ولا يخلفه
،فنقضه من صفات المنافقين؛ إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم" أربع مَنْ كُنَّ
فيه فَهُوَ مُنَافِقٌ خالص ، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها:
إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ ، وَإذَا ائتُمِنَ خَانَ ، وإذا خاصم
فجر " رواه أبو داود) ويقول أيضا " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ
كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ) رواه البخاري ومسلم) وطريق
الخسران فقد قال الله تعالى (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل وَيُفْسِدُونَ فِي الأْرْضِ أُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ ) البقرة27) ويقول سبحانه (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ
فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )الرعد 25) ولو
لم يكن في الغدر إلا موقف صاحبه يوم القيامة أمام الخلائق لكفى أن يكون زاجرا فعن عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" إِنَّ الْغَادِرَ يَنْصِبُ اللَّهُ لَهُ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ
أَلَا هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ "
إنَّ الوفاءَ على الكريمِ فريضــــةٌ
*** واللؤمُ مقرون بذي الإخلافِ
وترى الكريم لمن يعاشرُ منصفًا *** وترى اللئيمَ مجانبَ الإنصافِ
وترى الكريم لمن يعاشرُ منصفًا *** وترى اللئيمَ مجانبَ الإنصافِ
( الدعــــــــــاء )
===== كتبه =====
محمد حســــن داود
إمام وخطيب ومدرس
===== كتبه =====
محمد حســــن داود
إمام وخطيب ومدرس