خطبة بعنــــوان :
النفع العـام في ميزان الشرع الشريف
للشيخ / محمد حســـن داود
النفع العـام في ميزان الشرع الشريف
للشيخ / محمد حســـن داود
الموضـــوع :
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه
العزيز (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة2)
ويقول سبحانه(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)الحج77)،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف" وسلم " مَنِ اسْتَطَاعَ
مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ " رواه مسلم) ويقول أيضا "
أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ..." رواه الطبراني) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه،
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
لقد جاء الإسلام بما يحقق المودة والمحبة
والألفة بين الناس، جاء بما يحقق كل ما فيه نفع للمجتمع، لذا تراه دائما يحذر من
الأنانية والسلبية ويدعو إلى المشاركة والتعاون وتقديم المصلحة العامة وتحقيق
النفع العام، قال الله جل وعلا ( فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ) البقرة
١٨٤ ) وقال سبحانه (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة2)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم " مَنِ اسْتَطَاعَ
مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ "، وفي رواية " فَلْيَنْفَعْهُ " رواه مسلم ) ويقول
أيضا "
أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى
اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ
عَنْهُ جُوعًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ،
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ-
شَهْرًا، ..." رواه الطبراني)
ومن ينظر القران الكريم، يرى كيف اعلي
من مكانة فعل الخيرات، وتقديم كل عمل ينتفع به المجتمع،
ويحقق النفع العام، حتى قًرن الأمر به بالأمر بعبادة الله جل وعلا وطاعته فقال جل
وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)الحج77)،
قال السعدي رحمه الله " يأمرهم بفعل الخير عموما ، وعلق تعالى الفلاح على هذه
الأمور فقال( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) أي: تفوزون بالمطلوب المرغوب، وتنجون من المكروه
المرهوب، فلا طريق للفلاح سوى الإخلاص في عبادة الخالق، والسعي في نفع عبيده، فمن وفق
لذلك، فله القدح المعلى، من السعادة والنجاح والفلاح " تفسير السعدي).
وكذلك من يتدبر
السنة النبوية؛ يجد كيف أعلى النبي صلى الله عليه وسلم، من قيمة كل عمل ينتفع به المجتمع،
ويحقق النفع العام، حتى وان قل في نظر العبد ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ" بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ،
وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ
لَهُ " رواه مسلم) فكم هي صغيرة - إزاحة غصن شوك - في نظر العبد ومع ذلك فكم
هي عظيمة في الأجر والفضل، لما فيها من نفع عام وخير للناس ، ولما كان للصدقة
الجارية نفع عام، وتحقيق خير للمجتمع، عظم النبي صلى الله عليه وسلم أجرها وأعلى
شأنها، فقال صلى الله عليه وسلم " إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ
عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ : إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ
بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " رواه مسلم) وقال أيضا " سَبْعٌ
يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ
عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى
مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ " وها هو صلى الله عليه وسلم يمدح الاشعريين بفعلهم إذ يقدمون
المصلحة العامة على الخاصة ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم " إِنَّ الأَشْعَرِيين
إِذَا أَرْمَلُوا في الْغَزْوِ أَو قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِم بالمَدِينَةِ؛ جَمَعُوا
مَا كَانَ عِندَهُم في ثَوبٍ وَاحدٍ، ثُمَّ اقتَسَمُوهُ بَيْنَهُم في إِنَاءٍ وَاحِدٍ
بالسَّويَّةِ، فَهُم مِنِّي وَأَنَا مِنهُم"
متفقٌ عَلَيْهِ) وفي اعمار الأرض وتقديم النفع للمجتمع يقول النبي صلى الله
عليه وسلم : " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةً ، فَإِنِ
اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا ، فَلْيَغْرِسْهَا " وفى هذا
إشارة إلى اعمار الأرض تقديما للنفع العام حتى وان لم ينتفع صاحبها بثمرتها فمع أن
هذا له من الأجر والفضل نصيب إلا انه أيضا دأب العقلاء وشأن الحكماء، فقد حكي أن ملكا
خرج يومًا يتصيد فوجد شيخًا كبيراً يغرس شجر الزيتون فوقف عليه وقال له: يا هذا، أنت
شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة، فلم تغرسه؟ فقال: أيها الملك، زرع لنا
من قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا فيأكل " .
وفى هذا المقام ينبغي أن نذكر أن فعل الخيرات
وتحقيق النفع العام هو منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام، قال الله
سبحانه وتعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) الأنبياء73) "
قال السعدي أي: يفعلونها ويدعون الناس إليها، وهذا شامل لجميع الخيرات، من حقوق الله،
وحقوق العباد " تفسير السعدي) وذلك دون انتظار مقابل أو نفع دنيوي خاص، فقد
قال الله تعالى على لسان نبيه نوح (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ)هود29) وعلى لسان نبيه هود (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ
) هود51) وها هو الحبيب صلى الله عليه وسلم في إيثار لم نسمع بمثله يقول " لِكُلِّ
نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ ، وَإِنِّي
اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَهِيَ نَائِلَةٌ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا
" .
كما أن الناظر في السنة النبوية يجد
كيف كانت علامات السرور ظاهرة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، إذا ما شاهد التعاون
بين الناس، يعلون من شان النفع العام على الخاص، فعندما جاءه قوم تظهر عليهم
علامات الفقر وشدة الحاجة، ماذا كان منه صلى الله عليه وسلم ؟ يقول جابر بن عبد الله
رضي الله عنه " فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(أي تغير وجهه) لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ (أي من الفقر) ، فَدَخَلَ ثُمَّ
خَرَجَ ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ
: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيبًا ) سورة النساء آية 1) وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ ) سورة الحشر آية 18) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ
مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ ، حَتَّى قَالَ : وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ " ، قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ
تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ ، قَالَ : ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ
كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً
فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ
وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ
أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ " رواه البخاري
ومسلم )
ولك أن ترى كيف كان حال الصحابة مع تحقيق
النفع العام وتقديم المصلحة العامة، وكيف كان سيرهم على نهج النبي صلى الله عليه
وسلم، فعن بن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال أبو
بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان
ألف راحلة براً وطعاماً، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم
وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيهما على عاتقه فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه
قد قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان:
ادخلوا. فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من
الشام؟ قالوا العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني.
قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني
بكل درهم عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء
المدينة قال عبد الله بن عباس: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم في
منامي وهو على برذون أشهب يستعجل؛ وعليه حلة من نور؛ وبيده قضيب من نور؛ وعليه نعلان
شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك، فقال صلى
الله عليه وسلم: إني مبادر لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه
وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان" . ( الرياض النضرة في مناقب
العشرة للمحب الطبري)
إن من يتتبع مقاصد
الشريعة الإسلامية، وفقه الأولويات يرى أمثلة كثيرة لتقديم المصلحة العامة على الخاصة،
وإعلاء شان النفع العام: ومن ذلك أن قضاء حوائج الناس أولى من التطوع بالحج
والعمرة: إذ أن الناظر في أحوال بعض الناس، يجد أنهم يتهافتون على التطوع بالحج والعمرة
مرارا وتكرارا طمعا في الأجر والفضل، إلا أنه تحقيقا لمبدأ تقديم المصلحة العامة
على الخاصة ،وتحقيقا لمبدأ إعلاء النفع العام من جانب، ومن آخر فان فقه الأوليات
وضرورة ترتيبها؛ كل ذلك يقول مع وجود فقير لا يجد قوت يومه، ومريض لا يجد ما يتداوى
به، ومدين لا يجد ما يسد دينه، و يتيم لا يجد من يكفله ،ومكروب لا يجد من ينفس كربته؛
أن إطعام الجوعى وكساء العراة وكفالة اليتيم وتفريج كرب المكروب والمساهمة في إنشاء
المدارس والمستشفيات وغيرها مما يوفر حياة كريمة للناس، ويساعد على تقدم مجتمعهم أولى
من حج النافلة وتكرار العمرة؛ ولقد قيل لبشر الحافي " إن فلانا الغنى كثر
صومه وصلاته، فقال " انه لمسكين لقد ترك حاله ودخل في حال غيره، إن واجبه
إطعام الطعام وبناء الخيام، فهذا أفضل من تجويعه لنفسه وجمعه للدنيا وتركه للفقراء
"
فإن كان النبي
صلى الله عليه وسلم، قال في الحديث الذي ذكرنا أن من أحب الأعمال "حج مبرور"
؛ فهو صلى الله عليه وسلم القائل " أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس ... " رواه الطبراني ) وكما قال صلى الله عليه
وسلم " تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ
وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ
لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ" رواه احمد والترمذي وغيرها).
فهو صلى الله عليه وسلم من نفى كمال الإيمان عن من ترك جاره جوعان وهو يعلم؛ فعن أَنَس
بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا آمَنَ بِي مَنْ
بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ " رواه
الطبراني) كما أن تقديم ما فيه نفع عام باب عظيم لمغفرة الذنوب ونفى الفقر؛ اذ يقول
النبي صلى الله عليه وسلم " وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةِ كَمَا يُطْفِئُ
الْمَاءُ النَّارَ " سنن ابن ماجه) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَا مِنْ يَوْمٍ
يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا : اللَّهُمَّ
أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ، وَيَقُولُ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا
" رواه البخاري ومسلم)
كما لاشك أن الفقير
عندما يرى الغني يترك بابه فلا يطرقه بالخير، وباب المكروب فلا يطرقه بالعون، وباب
ما ينفع المجتمع فلا يطرقه بالخدمة والمساهمة، ويطرق باب التنفل بالحج والعمرة، فلا
شك انه حينئذ قد ينظر إليه نظرة حقد وحسد وضغينة .
كما أن الشريعة
الإسلامية دائما ما تدعونا للصلة والبر والإحسان وتقديم الخير، وليس من البر أن تترك
المستشفيات والمدارس والطرق وغيرها مما يخدم الناس في مجتمعهم، وتترك الآباء والأمهات
وذوى الأرحام، واليتامى والأرامل والمرضى ومن يعجزون عن كسب لقمة العيش يتكففون الناس
في الطرقات ويطرقون الأبواب، ثم ترى المستطيع يمنع هؤلاء العون والمودة والرحمة لينفق
أمواله تطوعا بالحج .
ولقد فهم هذا
وفطنه السلف الصالح؛ فقد جاء أن عبد الله بن المبارك رحمه الله، خرج ذات مرةً إلى الحج،
فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة، وسار أصحابه أمامه وتخلف
هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر
الميت، فكشف عن أمرها وفحص، حتى سألها، فقالت: أنا وأختي ها هنا، ليس لنا شيء، وقد
حلَّت لنا الميتة، وكان أبونا له مال عظيم، فظُلِم وأُخِذ ماله وقُتِل، فأمر عبد الله
بن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ فقال: ألف دينار، فقال: عد
منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام،
ثم رجع(البداية والنهاية لابن كثير).
كما روى أن رجلاً
جاء يودع بشر بن الحارث ، وقال : قد عزمت على الحج فتأمرني بشئ ؟ فقال له : كم أعددت للنفقة ؟ فقال : ألفى
درهم . قال بشر : فأي شئ تبتغى بحجك ؟ تزهدا أو اشتياقا إلى البيت
وابتغاء مرضاة الله ؟ قال : ابتغاء مرضاة الله ، قال نعم . قال بشر : فإن
أصبت مرضاة الله تعالى ، وأنت في منزلك وتنفق ألفى درهم ، وتكون على يقين من مرضاة
الله تعالى : أتفعل ذلك ؟ قال : نعم
قال : اذهب فأعطها
عشرة أنفس : مديون يقضى دينه ، وفقير يرم شعثه ، ومعيل يغنى عياله ، ومربى يتيم يفرحه
، وإن قوى قلبك تعطيها واحدا فأفعل ، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم ، وإغاثة اللهفان
، وكشف الضر ، وإعانة الضعيف : أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام ! قم فأخرجها كما
أمرناك ، وإلا فقل لنا ما في قلبك ؟
فقال : يا أبا
نصر ، سفري أقوى في قلبي . فتبسم بشر رحمه الله ، وأقبل عليه ، وقال له : المال إذا
جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضى به وطراً ، فأظهرت الأعمال الصالحات
، وقد آل الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين .
كما أن من صور النفع العام " ذبح
الأضاحي " فهو باب واسع من أبواب التكافل المجتمعي، وهو طريق لتوطيد العلاقات بين الناس، وزرع
المحبة والألفة في القلوب، وكفى في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم " مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ
مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ، أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ ، إِنَّهَا
لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَأَظْلَافِهَا، وَأَنَّ
الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْأَرْضِ، فَطِيبُوا
بِهَا نَفْسًا"رواه الترمذي ، وبن ماجه) ولقد حرصت وزارة الأوقاف المصرية على
تحقيق هذه الصورة من صور النفع العام، وتيسيرها على الناس، وكذلك سعيا إلى وصولها
إلى الأسر الأكثر احتياجا من جانب، ومن آخر مساهمة منها في إحياء سنة سيدنا إبراهيم
عليه السلام، وتأسيا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فاهتمت بمشروع " صك
الأضحية " والذي يعد بمثابة توكيل بالأضحية، فلا شك أنه يعظم من نفع الأضحية،
وبخاصة لمن لا يملك آلية لتوزيعها على الوجه الأمثل .
إن للنفع العام مكانة كبيرة وأثرا
عظيما، ففيه تجسيد لمبدأ الأخوة والجسد الواحد الذي يشعر فيه الإنسان بفرح الآخرين
ويتألم فيه لألمهم، وقد قال
الله جل وعلا (فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهْ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا
يَرَهْ) الزلزلة7/8) وعن أَبِي مُوسَى الأشعري، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ " الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ
بَعْضًا " ، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، ..." رواه البخاري) ومن ثم فإن تحقيق النفع العام، باب
عظيم لنشر الود والمحبة والألفة بين أفراد المجتمع ؛ كما انه باب عظيم للقضاء على الأنانية والأثرة وحب الذات؛ ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ
لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " كما
أن الواقع ينادينا أن من أعظم أسباب تقدم المجتمع إعلاء قيمة النفع العام وتقديم
المصالح العامة على الخاصة، ولقد قال الله جل وعلا (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
)البقرة 197) ويقول سبحانه وتعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )التوبة 105) .
ﺻﻨﻊُ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞِ ﻭَﻓﻌﻞُ
ﺍﻟﺨﻴــﺮِ ﺇِﻥْ ﺃُﺛِﺮﺍ *** ﺃﺑﻘﻰ ﻭَﺃَﺣﻤﺪ ﺃَﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻔﺘﻰ ﺃَﺛــــــَﺮﺍ
ﺑَﻞْ ﻟﺴﺖُ ﺃَﻓﻬﻢ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻠﺤﻴــﺎﺓ ﺳﻮﻯ *** ﻋــــﻦ ﺍﻟﻀﻌﻴﻒِ ﻭﺇﻧﻘﺎﺫ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺜﺮﺍ
ﺇِﻥْ ﻛــــــﺎﻥ ﻗﻠﺒﻚ ﻟﻢ ﺗﻌﻄﻔﻪ ﻋﺎﻃﻔﺔٌ *** ﻋَﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺎﻛﻴﻦ ﻓﺎﺳﺘﺒﺪﻝْ ﺑﻪ ﺣﺠﺮﺍ
ﺑَﻞْ ﻟﺴﺖُ ﺃَﻓﻬﻢ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻠﺤﻴــﺎﺓ ﺳﻮﻯ *** ﻋــــﻦ ﺍﻟﻀﻌﻴﻒِ ﻭﺇﻧﻘﺎﺫ ﺍﻟﺬﻱ ﻋﺜﺮﺍ
ﺇِﻥْ ﻛــــــﺎﻥ ﻗﻠﺒﻚ ﻟﻢ ﺗﻌﻄﻔﻪ ﻋﺎﻃﻔﺔٌ *** ﻋَﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺎﻛﻴﻦ ﻓﺎﺳﺘﺒﺪﻝْ ﺑﻪ ﺣﺠﺮﺍ
===== كتبه =====
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومدرس
محمد حســـــــن داود
إمام وخطيب ومدرس