recent
آخر المشاركات

خطبة الجمعة القادمة: لغة القرآن والحفاظ على الهوية- للشيخ / محمد حســــــن داود (13 جمادى الأولى 1443هـ - 17 ديسمبر 2021م)

 

خطبة بعنــــــوان:
لغة القرآن والحفاظ على الهوية
للشيخ / محمد حســــــن داود
13 جمادى الأولى 1443هـ - 17 ديسمبر 2021م


العناصـــــر :    مقدمة.
- مكانة اللغة العربية وأهميتها.
- أثر اللغة العربية في فهم صحيح الدين.
- لغة القرآن والحفاظ على الهوية.

الموضـــــوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف2) وقال عز وجل: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (الزمر 27- 28) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "بُعِثْتُ بجَوامِعِ الكَلِمِ" (متفق عليه) اللهم صل وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فإن اللغة هي الوعاء الحامل للمعاني والثقافات، هي الركن الأول في عملية التفكير، والوسيلة الأولى للتواصل والتفاهم والتخاطب وبث المشاعر والأحاسيس، وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء الشخصية، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم 22) وقد كتب بعض الحكماء لبنيه "يَا بَنِيَّ، أَصْلِحُوا أَلْسِنَتَكُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ تَنُوبُهُ النَّائِبَةُ، فَيَسْتَعِيرُ دَابَّةَ أَخِيهِ وَثَوْبَ أَخِيهِ، وَلا يَجِدُ أَحَدٌ يُعِيرُهُ لِسَانَهُ) (أخبار الشيوخ وأخلاقهم"، وهذا القدر من أهمية اللغة مشترك بين الإنسان وبين اللغات كافة في كل مكان وزمان، إلا أن اللغة العربية هي أصلح اللغات، وأجمل الكلمات، وأجمع المعاني والعبارات، وأحسن إشارة وأوجز عبارة، قال تعالى (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (الشعراء 192- 195)، وقال سبحانه (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن 1-4) في دلالة أن سائر اللغات دونها في البيان، قال ابن فارس: "لما خص جل ثناؤه اللسان العربي بالبيان عُلم أن سائر اللغات قاصرة عنه وواقعة دونه"(الصاحبي في فقه اللغة؛ لابن فارس).

وإن تنظر إلى التاريخ تجد مدى حب العرب للغتهم العربية وفخرهم بها واهتمامهم بشأنها، مع أنهم كانوا يتكلمونها بالسليقة والوراثة والعادة المستمرة، فصيحة سليمة من اللحن والاختلال، لا مشقة تعلم أو تعليم، ومع ذلك اهتموا بها حتى كان من أسباب تهانيهم فيما بينهم نبوغ الشعراء، فلم نعرف أمة أقامت اسواقا للكلمة غيرهم، أسواقا تتنافس فيها المعاني والفصاحة والبيان، إذ كان من عاداتهم أن يتحدى بعضهم بعضا بالقصيد والخطب، حتى قيل (وفي صحته كلام) أن هناك أشعارا علقوها على أستار الكعبة قبل الإسلام، مما يدل على أن الفصاحة والبلاغة والبيان عندهم من أعظم ما درجوا على الافتخار به.

ويكفي هذه اللغة شرفا وفضلا ارتباطها بالقرآن، واتصالها بسنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فهي محفوظة بِحفظِ القُرآنِ الكَريمِ، واللهُ  تعالى يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون)(الحجر 9)، وإن كان كل نبي أرسل بلسان قومه كما قال تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم 4) فلقد أرسل نبينا بلسان عربي مبين، فكان أفصح العرب لسانا، وأبلغهم بيانا، فهو صلى الله عليه وسلم القائل: "بُعِثْتُ بجَوامِعِ الكَلِم" (متفق عليه) فكانت المعجزة الكبرى والمنة العظمى "القرآن الكريم"، إذ تحدى الحق سبحانه العرب البلغاء الفصحاء أهل اللسان والبيان على أن يأتوا بمثله قال تعالى ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ﴾ (الطور 34) أو أن يأتوا ببعض سور، قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود 13) ثم أن يأتوا ولو بسورة من مثله، قال تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس 38)، وقال سبحانه ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ )( البقرة23-24) وانظر ماذا قال الوليد بن المغيرة، لما طلبت قريش منه أن يقول في القرآن قولا يبلغ قومه أنه كاره له، ومنكر له، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لَمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا. قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ "فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ" (رواه الحاكم وصححه)

ولمكانة هذه المعجزة؛ تجد أن من أدعى النبوة في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) (كمسيلمة الكذاب) يميل بادعائه الى أمور منها ادعاء الاعجاز والفصاحة والبيان؛ لكن هيهات هيهات أن يأتي أحدهم أو جميعهم، بل لو اجتمعت الانس والجن ما جاءوا بمثله، قال تعالى ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾(الإسراء 88)،

إن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، قال تعالي (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (الزمر 27- 28)، وقال سبحانه (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف 3) ومن ثم فلا يمكن أن نفهم ديننا فهما صحيحا، ولا أن نستقي أحكامه من الكتاب والسنة إلا بفهم لغتنا العربية فهما دقيقا، إذ إن القرآن نزل باللسان العربي، ولا شك أنه لا يصح فهمه وتفسيره إلا عن طريق هذا اللسان، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال" كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَوَاتِ حَتَّى أتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، أي ابْتَدَأْتُهَا " (شعب الإيمان)

ولعل في ربطَ القرآن الكريم بين اللسانِ العربي وإعمالِ العقلِ، في قوله تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )(يوسف2) وربطه بينَ اللغةِ العربيةِ والدعوةِ إلي طلبِ العلمِ، في قوله تعالى: (كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ) (فصلت3) إشارة عظيمة إلى وجوب الاعتناء باللغة العربية وبيان أهميتها في فهم القران والسنة، فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ كَمَا تَعَلَّمُونَ حِفْظَ الْقُرْآنِ" (مصنف ابن أبي شيبة) ومن ثم فإن الأصوليين والفقهاء وغيرهم عدوا التمكن في اللغة العربية وأدواتها أحد أهم شروط الاجتهاد وحذروا من تفسير كتاب الله من غير علم بالعربية، يقول مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب" (البرهان في علوم القرآن)

نعم لقد أدرك الأئمة الأقدمون أهمية اللغة العربية في فهم كلام الله (سبحانه وتعالى)  وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) فهذا الإمام الشافعي (رضي الله عنه) يقول عنه زوج ابنته: "أقام الشافعي علم العربية وأيام الناس عشرين سنة، فقلنا له في هذا، فقال: ما أردت بهذا إلا استعانة للفقه" أي: ظل عشرين سنة يتبحر في اللغة العربية وعلومها ليفقه ويفهم القرآن والسنة، فمعرفة كلام العرب يساعد على فهم الشريعة فهما حقيقيا، قال تعالى (كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) (طه113) وقال النبي (صلى الله عليه وسلم) "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ"(رواه أبو داود)، وقد كتب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه)، فقال (فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّة) وقال الإمام مالك (رضي الله عنه) " لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يُفَسِّرُ كِتَابَ اللَّهِ غَيْرِ عَالِمٍ بِلُغَةِ الْعَرَبِ إِلَّا جَعَلْتُهُ نَكَالًا" (البرهان في علوم القرآن) كما لا ينكر أحد أن عدم المعرفة باللغة العربية، وعدم التعمق في فهم النص، والاقتصار في العمل علي الأخذ بظاهره يوقع في خطأ جسيم، وقد يصل الحال إلي الفهم الخاطئ الذي يؤدي إلي استباحة الدماء.

إن المتأمل في تاريخ الأمم والمجتمعات وتعاقب الأمجاد والحضارات يجد أن في كل أمة ركنا ركينا، ألا وهو لسانها ولغتها، فاللغة نور اللسان تقوى بعناية أهلها وحفظهم لها، وتضعف بإهمالهم لها، بل من المقرر بداهة أنه لا توجد أمة دون لغة، ولا لغة دون أمة، وإننا أبناء هذه الأمة قد من الله علينا بأفصح لسان، وأبلغ بيان، وأفضل لغة، فلا شك أنها تستحق الفخر والاعتزاز بها، ومن ثم فالواجب على كل فرد أن يسعى إلى غرس مفاهيم اللغة العربية داخل قلبه وروحه ووجدانه، والاعتزاز بها داخله وفي قرارة نفسه، وان يعلمها أولاده وأحفاده، وأن يكون دائما يقظا لكل محاولات تذويب الهوية، بالحفاظ على لغتنا وعنايتنا بها.

اللهم احفظ مصر وجيشها من كل مكروه وسوء

كتبه: 

محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
ماجستير في الدراسات الإسلامية

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----        اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى)  اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----         اضغط هنا 


لتحميــل الخطبة  word   جوجل درايف    -----        اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word جوجل درايف (نسخة أخرى)  اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf    جوجل درايف     ----         اضغط هنا


google-playkhamsatmostaqltradent