خطبة بعنــــوان:
الإيجابية
للشيخ / محمد حســــن داود
(24 جمادى الأولى 1445هـ -
8 ديسمبر 2023م)
العناصــــــر: مقدمة
-
الإيجابية ومكانتها في الإسلام.
- دعوة القرآن والسنة إلى الإيجابية.
- صور ونماذج من الإيجابية في القرآن الكريم.
- الإيجابية في حياة النبي (صلى الله عليه وسلمَ) وأصحابه.
- أثر الإيجابية وصورها.
الموضـــــوع: الحمد
لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الحج77)، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "المُؤمِنُ يألَفُ ويُؤلَفُ ولا خيرَ
فيمَنْ لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ" (رواه أحمد)، اللهم صل وسلم وبارك
عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
لقد جاء الإسلام داعيا إلى أحسن الخلق وأجمل الصفات،
وأنبل القيم وأفضل السمات، ناهيا عن كل ما هو مذموم من الطباع والعادات.
ومن الأخلاق
الحميدة، والقيم النبيلة التي دعا إليها الإسلام " الايجابية ".
فالمسلم متفائل في حياته، شاكر في نعمائه، صابر في
ضرائه، قانع بعطاء ربه، فيضًا من العطاء، قويًا في البناء، ثابتًا عند الابتلاء،
لا ييأس حين يقنط الناس، ولا يتراخى عن العمل حين يفتر العاملون، يصنع من الظلام
نورًا، ومن الحزن سرورًا، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "المُؤمِنُ
يألَفُ ويُؤلَفُ ولا خيرَ فيمَنْ لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ " (رواه أحمد).
والعقل يدرك أن من أجل
أبواب رقى المجتمعات ودعائم تشييد الأمجاد والحضارات هو إعلاء قيمة الايجابية؛
لذلك هي مطلب منشود في الشريعة الإسلامية والقيم الإنسانية؛ فهى من أجل صفات
الأنبياء؛ فقد قال الله (عز وجل) فيهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ) (الأنبياء: 90)
ولا
أدل على ذلك من قول السيدة خديجة (رضي الله تعالى عنها) تصف حال النبي (صلى الله
عليه وسلمَ) حينما جاءها من غار حراء بعد أن رأى جبريل (عليه السلام): "
كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ؛
وَتَحْمِلُ الْكَلَّ؛ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ؛ وَتَقْرِي الضَّيْفَ؛ وَتُعِينُ
عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" ففيه الإشارة إلى الإيجابية في جميع جوانب حياته
صلى الله عليه وسلمَ.
لقد تواترت الآيات تدعونا إلى الايجابية؛ ومن ذلك قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: ٢) وقوله سبحانه (وَمَن تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة: ١٥٨)، وقوله عز وجل: (لاَّ
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ
مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء
مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (النساء: 114). فهناك فرقًا
شاسعًا بينَ الإيجابيةِ والسلبيةِ كالفرقِ بينَ الليلِ والنهارِ، والوجودِ والعدمِ،
وقد قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لا
يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا
يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:76) حيث سمَّى اللهُ (عز وجل) السلبيَّ في هذه الآيةِ
" كلاًّ" و لفظة "كَلٌّ" أصعبُ مِن سلبي؛ فسلبِي تعني غيرُ
فعالٍ، أما كَلّ فمعناها الثقيل الكسول. بينما سمى الإيجابيَّ بـ " يأمرُ
بالعدلِ" فهو الشخصيةُ المنتجةُ في كافةِ مجالاتِ الحياةِ حسب القدرة
والإمكانية، يوازنُ بينَ الحقوقِ والواجباتِ، فهل يستويان؟.
كما أن السنة النبوية المطهرة زاخرة بدعوات وحث على الايجابية؛ منها ما جاء
عن أَبي هُرَيْرَةَ (رَضي اللهُ عنه) قال: قالَ رسُولُ الله (صلى الله عليه وسلم):
" كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ:
تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وتُعين الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ
عليها أو تَرْفَعُ لهُ متَاَعَهُ صَدَقَةٌ، والْكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صَدَقَةٌ، وبكُلِّ
خَطْوَةٍ تَمشِيها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وتُمِيطُ الأَذَى عنِ الطَّرِيِق صَدَقَةٌ
" (رواه البخاريُّ ومسلم) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟
، قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَا ، قَالَ : فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ
الْيَوْمَ جَنَازَةً؟، قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَا ، قَالَ
: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ) : أَنَا ، قَالَ : فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ ، قَالَ أَبُو
بَكْرٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): أَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " (رواه مسلم)
و عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ
؟ وَأَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): " أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ
لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ
، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ
دَيْنًا ، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا(رواه الطبراني)،
وَعنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
: "الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ،
أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا
يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" ( رواه ابن ماجه).، وعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): " لَا تَكُونُوا
إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا
ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ
تُحْسِنُوا وإِن أساؤوا فَلَا تظلموا " ( رواه الترمذي).
وإن المتدبر في القران الكريم يرى أروع الأمثلة في الايجابية؛ فهذا نبي
الله موسى (عليه السلام) يساعد المحتاجين: إذ يشير القرآن الكريم إلى صور عدة من
ايجابيته؛ ومن ذلك تطوعه بمساعدة لامرأتين كانتا تستسقيان لرعي أغنامهما، قال
تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ
يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا
قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ *
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص: ٢٣- ٢٤).
ويظهر لنا القران نموذجا آخر للايجابية؛ وهو هذه النملة التي حذرت قومها أن
يصيبهم أذى من جنود سليمان (عليه السلام) وهم لا يشعرون؛ قال تعالى: (وَحُشِرَ
لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (النمل: 17).
وهذا ما كان من هدهد سليمان (عليه السلام) في الايجابية، ذاك الطائر الصغير
في حجمه الكبير في همته، العظيم في تفكيره، وذلك حين انفرد بعمل إيجابي كان سببا
في هداية مملكة كاملة إلى عبادة الله (عز وجل)؛ قال تعالى (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ
فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ*
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ
بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً
تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا
وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) (النمل
20-24)
إن المسلم أولى من الهدهد والنملة بالعمل الإيجابي والمسابقة والمسارعة إلى
الخير، وقد قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ
عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133)، وإن
كان القرآن العظيم قد قص علينا خبر الهدهد والنملة، أفلا يكون ذلك مثالا يعلي في
قلوبنا قيمة الإيجابية؟.
لقد كانت حياة النبي (صلى الله عليه وسلمَ) مثالا رائعا للايجابية في أسمي
وأرقي معانيها؛ ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم ،عَنْ أَنَسٍ " أَنَّ امْرَأَةً
كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ
حَاجَةً ، فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى
أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ ". وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ) قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلمَ) بالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ
قَامَ مُسْرِعَاً، فَتَخَطى رِقَابَ النَّاس إلى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، ففزِعَ
النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فخَرَجَ عَلَيْهِمْ فرأى أنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ
سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: " ذَكَرْتُ شَيْئَاً مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ
أنْ يَحْبِسَنِي فأمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ " (رواه البخاري) وعَنْ أَنَسٍ ،
قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَحْسَنَ النَّاسِ ،
وَأَجْوَدَ النَّاسِ ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ
ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ
النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ
، وَهُوَ يَقُولُ : لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي
طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ : لَقَدْ
وَجَدْتُهُ بَحْرًا . أَوْ : إِنَّهُ لَبَحْرٌ "
كذلك كان يوجه أصحابه ويوجهنا معهم إلى الإيجابية بكل معانيها؛ فكان من
حديثه: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ
اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا"، وكذلك:
" بلِّغوا عنِّي ولو آيةً" ، وقال: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ
غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ
بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ".
والناظر في التاريخ والسير يرى كيف كانت قيمة الايجابية في أخلاق الصحابة
فانظر فعل سيدنا عثمان (رضي الله عنه) فعن ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي
بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير
إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة براً وطعاماً، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا
عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيهما على عاتقه فقال لهم: ما
تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك ألف راحلة براً وطعاماً، بعنا حتى نوسع به
على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا. فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في دار
عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا العشرة اثني عشر، قال: قد
زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر، قال:
قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني بكل درهم عشرة، عندكم
زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة قال عبد
الله بن عباس: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله (صلى الله عليه وسلَم) في منامي وهو
على برذون أشهب يستعجل؛ وعليه حلة من نور؛ وبيده قضيب من نور؛ وعليه نعلان شراكهما
من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد طال شوقي إليك، فقال صلى الله
عليه وسلَم: إني مبادر لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه
وزوجه بها عروسا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان. (الرياض النضرة في مناقب
العشرة للطبري).
والإيجابية باب
عظيم لنشر الود والمحبة والألفة والتماسك بين أبناء المجتمع، وهي علامة بارزة على صفاء
معدن صاحبها ونخوته وعاطفته، وهي ترجمان لصورة مجتمع حضاري متقدم يشعر كل فرد فيه
بالآخرين، ويرى قمة سعادته فيما يسمو بهم ويرتقى، فيحب لهم ما يحب لنفسه من الخير،
وهذا من ركائز الإيمان بالله، فَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ
النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلمَ) قَالَ:
"لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ" يحكي أن كسرى خرج يوماً يتصيد فوجد شيخاً كبيراً يغرس شجر
الزيتون فوقف عليه وقال له: "يا هذا أنت شيخ هرم والزيتون لا يثمر إلا بعد
ثلاثين سنة فلم تغرسه؟" فقال: "أيها الملك زرع لنا من قبلنا فأكلنا فنحن
نزرع لمن بعدنا فيأكل".
ثم إن من مؤشرات مقياس الخيرية في الناس، ومن أبواب الحسنات والرفعة في
الدرجات، الايجابية، وقد قال تعالى: ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ ) (الحج77)، فلقد عظم الإسلام أجر الإيجابية، حتى وإن قل العمل، فقال
صلى الله عليه وسلمَ: "تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ"،
وقال: "بينَما رجُلٌ يمشي بطريقٍ وجَد غُصْنَ شوكٍ على الطَّريقِ فأخَذه
فشكَر اللهُ له فغفَر له".
إن للإيجابية صورا كثيرة، فمنها: العلم :إذ أن نهضة الأمة تتحقق بالارتقاء بالعلم،
ومن هنا كان حث الإسلام على المشاركة الايجابية في تعلم العلوم، وقد جاء في القرآن
قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًاً) (طه: 114).
ومنها: العمل : فالعمل حجر أساس لبناء القوة الاقتصادية، ومن ذلك قوله
تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).
ومنها: التكافل والتراحم، وقضاء
حوائج الناس؛ فلقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ ): " مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُم أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ
فَلْيَفْعَلْ." (رواه مسلم).
ومنها: الإيجابية مع الأهل، والأرحام، والجيران.
ولا شك أن من أعظمها: حب الوطن والوفاء له والإيجابية بأداء الواجبات الوطنية؛ والتي منها المشاركة الإيجابية في الانتخابات، فهذا واجب وطني، ولا شك أن كل وفيا مخلصا محبا لوطنه لا يتقاعس عن واجبه تجاه وطنه.
نسأل الله العلي القدير أن يحفظ مصر من كل مكروه وسوء.
=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف ----- اضغط هنا
لتحميــل الخطبة word جوجل درايف (نسخة أخرى) اضغط هنا
لتحميــل الخطبة pdf جوجل درايف ---- اضغط هنا