recent
آخر المشاركات

تحديث خطبة الجمعة : حافظ على كل قَطْرَةِ ماء واحذر من القِمَارِ بكل صوره للدكتـــــور/ محمد حســــن داود (6 جمادى الأولى 1446هـ - 8 نوفمبر 2024م)

تحديث خطبة الجمعة :
حافظ على كل قَطْرَةِ ماء
واحذر من القِمَارِ بكل صوره
للدكتـــــور/ محمد حســــن داود

(6 جمادى الأولى 1446هـ - 8 نوفمبر 2024م)

العناصـــــر :   

- نعمة الماء: مكانتها وأهميتها.
- شكر نعمة الماء.

- نهي الإسلام عن الإسراف في الماء.
- حث الإسلام على الحفاظ على نعمة الماء، وتنميتها، وعدم تلويثها.
- واحذر من القِمَارِ بكل صوره.

الموضــــــوع: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، نعمه لا تحصى، وآلاؤه ليس لها منتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، نبي الرحمة ورسول السلام، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فإن نعم الله (عز وجل) على عباده لا يحدها حد، ولا يحصيها عد؛ قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 18)، وقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان: 20)؛ وإن من أرفع هذه النعم قدرا، وأعظمها شأنا (وكل نعم الله رفيعة القدر، عظيمة الشأن): "نعمة  الماء".

- فلعظيم قدرها وجليل أمرها؛ حفل القرآن الكريم بذكرها، والتنويه بشأنها في مواضع كثيرة، فتحدث عنها القرآن الكريم نازلة من السماء، وتحدث عنها وهي في الأرض، ومن ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ) (الفرقان: 48) وقوله جل وعلا: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ) (المؤمنون: 18) وقوله عز وجل: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا) (المرسلات: 27)، وفي ذلك إشارة واضحة جلية، ودليل قوي على أهمية هذه النعمة العظيمة، فلا شك أن كثرة ذكرها في كتاب الله بمفرداتها ومكوناتها من البحار والأنهار والسحاب يدل على عظم أثرها في حياة البشرية.

- فالماء أصل للحياة، قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (النور: 45)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي، وَقَرَّتْ عَيْنِي، أَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، قَالَ: "كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ" (رواه ابن حبان).

- والماء مصدر للحياة، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (الانبياء: 30)، فلولا وجود الماء ما كان إنسان، وما عاش  على الأرض حيوان، وما نبت زرع أو شجر، وما كان منه الثمر؛ قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)( النحل: 10-11).

- والماء أصل المعاش وأعظم سبل الرزق، وهو روح الخيرات، يقول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) "أينما كان الماء كان المال"، ولقد سطر التاريخ أن حضارات البشر شُيدت على ضفاف الأنهار، وقطرات الأمطار، وسواحل البحار، في دلالة على أهمية الماء في كل زمان وأوان.

- بل من قدره وعظيم أمره أن تراه في العبادات، وقد قال النبي (صلى اللهُ عليه وسلم): "الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ"، وفي رواية: "الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ"، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صلى اللهُ عليه وسلم) قَالَ: "إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ" (مسلم).

- ومن عظيم قدره أن ترى سقي الماء في أبواب الحسنات والصدقات، وخصال الخيرات، وفعل الصالحات، والفوز بالدرجات:

* فقد روى أبو داود أَنَّ سيدنا سعدا أَتَى النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: "الْمَاءُ" وعَنْ سَعْدِ (رضي الله عنه): أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ فَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "‌سَقْيُ ‌الْمَاءِ". ولما سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ فَقَال: "الْمَاءُ ، أَلَمْ تَرَوْا إِلَى أَهْلِ النَّارِ حِينَ اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ؟" .

* وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): " سَبْعٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أَوْ كَرَى نَهَرًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا، أَوْ بَنَى مَسْجِدًا، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ".

* ويقول ابن شقيق: "سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سَبْعِ سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع بما أعطوه، فقال له ابن المبارك: اذهب فاحفر بئرًا في مكان يحتاج الناس فيه إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ بإذن الله" (شعب البيهقي).

- ومن عظيم أمر الماء أن أيد الله (عز وجل) به بعض أنبيائه، فمن المعجزات التي أكرم الله (عز وجل) بها حبيبنا النبي (صلى اللهُ عليه وسلم) أن نبع الماء من بين أصابع يوم الحديبية؛ فعن سيدنا جابر (رضي الله عنه) قال: عَطِشَ النَّاسُ يَومَ الحُدَيْبِيَةِ والنَّبيُّ (صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) بيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ، فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقالَ: "ما لَكُمْ؟" قالوا: ليسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ ولَا نَشْرَبُ إلَّا ما بيْنَ يَدَيْكَ، فَوَضَعَ يَدَهُ في الرِّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَثُورُ بيْنَ أصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ العُيُونِ، فَشَرِبْنَا وتَوَضَّأْنَا. قُلتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قالَ: لو كُنَّا مِئَةَ ألْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِئَةً" (رواه البخاري).

- ومن عظيم أمره أنه جند من جند الله، نجى الله به عبادا، وأهلك به آخرون.

- ومن عظيم أمره أن ضرب الله (عز وجل) به الأمثال في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) (الكهف: 45)، وقال سبحانه: ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس:24).

إن السعي في حصر خصائص الماء، ووظائفه، ومنافعه، وفوائده، يعجز عنه العبد، فلا شراب إلا بماء، ولا طعام إلا بالماء، ولا دواء إلا بالماء، ولا نظافة إلا بالماء، ولا صناعة إلا بالماء، ولا زراعة إلا بالماء، قال جل وعلا: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج: 5) وقال جل وعلا: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ) (فاطر: 27) وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 99) ومن ذلك كان اهتمام الناس جميعا بالماء على اختلاف الزمان والمكان والحال، فها هو النبي (صلى الله عليه وسلم) يدعو أصحابه قائلا: "مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ" فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).

إن من الناس من تعودوا وجود هذه النعمة وأَلِفُوها؛ فهي دائما حاضرة بين أيديهم متى يريدونها يجدونها دون مشقة أو عناء أو مجرد سعى في طلبها، مما جعلهم قد ينسون قدر هذه النعمة وشأن هذه المنة، ووجوب شكرها؛ والله (جل وعلا) يقول: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) (الملك:30) ويقول:(أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة56-58).

ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حفيا بهذه النعمة يعظمها ويشكرها، وما أكثر الدعوات التي كان يدعو بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين يفرغ من طعامه إذا طعم وشرابه إذا شرب، فعَنْ ‏‏أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ ‏‏قَالَ:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ‏إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ: "‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى،‏‏ وَسَوَّغَهُ،‏ ‏وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا" (رواه أبو داود) ومن دعائه أيضا: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، مَنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا " ولا شك أن هذه البشاشة التي يستقبل بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نعمة الماء، وهذا الشكر الدائم لله على هذه النعمة هما أعظم دلالة على أهمية هذه النعمة العظيمة.

فحرى بنعمة أشار إليها القران في أكثر من موضع، وأشارت إليها السنة النبوية في أكثر من موضع، غير أنها مصدر للحياة، أن تكون موجبة للشكر بالقول والعمل، فالشكر باب دوام النعم، بل وزيادتها، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7) ويقول ابن عطاء الله السكندري (رحمه الله): "من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها".

وإن شكر الله (تبارك وتعالى) على نعمة الماء لا يقتصر على الشكر باللسان، بل يتعداه إلى الشكر بالفعل؛ فقد قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).

وإن من شكر الله (تعالى): الحفاظ على هذه النعمة بحسن التصرف فيها، فنقطة الماء تساوي حياة، وإهدار نقطة الماء قد يعني إهدار حياة، ومن ذلك كانت دعوة الإسلام إلى الاقتصاد والترشيد في استعماله؛ فأي إسراف في استعمال الماء هو تصرف سيء وسلوك غير حميد، جاء النهي عنه صريحا في القرآن الكريم، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، ولقد كان النبي (صلى الله عليه وسلمَ) إذا اغتسل اغتسل بالقليل، وإذا توضأ توضأ باليسير؛ فعن أنس (رضي الله عنه) قال: "كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَغْسِلُ، أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ، بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ " (رواه البخاري) (الصاع أربعة أمداد، والمد ملء اليدين المتوسطتين) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: "مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ، قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ" (رواه أحمد) ولما جَاءَ رجل إِلَى النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ الوُضُوءَ، فَأَرَاهُ الوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا، فَقَدْ أَسَاءَ، أَوْ تَعَدَّى، أَوْ ظَلَمَ".

فإذا كان الاقتصاد في استعمال الماء في العبادة مطلوبا وعملا مرغوبا؛ فالاقتصاد في غير العبادة أولى، وإن كان الذي يغرف منه نهرا أو بحرا، بل وعدم إهداره فيما لا فائدة منه ولا طائل أولى وأولى، فمن جار أو تجوز في استخدامه فوق الحاجة أو في غير ما خصص له فقد (أساء – تعدى – ظلم).

إِيَّاكَ وَالإِسْـَرافَ فِـيمَـا تَبْتَغِـــي *** فَلَرُبَّما أَدَّى إِلَى التَّقْتِيـــرِ
وَاسْتَعْمِلِ القَصْدَ الوَفِيرَ تَفُزْ بِهِ *** وَاسْتَبْدِلِ التَّبْذِيرَ بِالتَّدْبِيرِ

إن من شكر نعمة الماء أيضا الحفاظ عليه نظيفا نقيا غير ملوث؛ إذ إن الإسلام دين الرقي والحضارة يريد للمياه أن تبقى بعيدة عن كل ما يعكر صفاءها، ويلوث نقاءها، على الصورة التي صورها القرآن الكريم لها، والصفة التي وصفها بها، فقد جاء وصف الماء في القرآن الكريم بالبركة والطهور والعذوبة، يقول الله تعالى: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً) (ق: 9) ويقول سبحانه وتعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً) (الفرقان: 48) وقال عز وجل: (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً) (المرسلات: 27) ولكي يبقى الماء على هذه الصورة النضرة الزاكية، والصفات الجميلة الراقية؛ نهى الإسلام عن كل تصرف يؤدي به إلى خلاف ذلك، فعن جابر (رضي الله عنه) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ " (رواه مسلم)،  وعن جابر أيضا أنه قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي".  فلقد نهى الإسلام عن كل تصرف أو سلوك حرم بسببه الماء من صفائه، وطهارته ونقائه، فَعَنْ مُعَاذٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ  (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) "اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ"(رواه أبو داود) ويلحق بذلك إلقاء القاذورات والقمامة والمخلفات وكل ما يعكر صفوه ، فالاعتداء عليه اعتداء على حق المجتمع كله وطرح الأذى فيه أذى للمجتمع كله يأثم صاحبه بفعله، والله (سبحانه وتعالى) يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (الأحزاب 58)، ولقد قرر الإسلام أنه لا ضرر ولا ضرار، ومما لاشك فيه أنه لا ضرر أشد من الضرر في تلويث مصدر الحياة.

ومن ثم فيجب على كل إنسان أن يحافظ على الماء من كل ما يلوثه من ناحية، ومن أخرى أن يقتصد في استعماله ويمتنع عن إهداره، فهو من النعيم الذي يسأل عنه العبد يوم القيامة قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر: 8)، وقد قال النبي (صلى اللهُ عليه وسلم): "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنْ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ظِلٌّ بَارِدٌ وَرُطَبٌ طَيِّبٌ وَمَاءٌ بَارِدٌ"، وعن أبى هريرة (رضي الله عنه) قال، قال رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ - يَعْنِي العَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ - أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ المَاءِ البَارِدِ " (رواه الترمذي).

الخطبة الثانية:  لما كان المال يمثل عصب الحياة، وكانت النفس مجبولة على حبه، والطباع مشغولة بالحرص على طلبه وتحصيله، أوجب الشرع الحنيف أن يكون طلبه والسعي في تحصيله مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح، ونهى وحذر أن يسلك الإنسان في طلبه طرق الحرام، وإن من هذه الطرق الدنيئة، والسبل المحرمة: "القمار".

فانظر: ترى أن القرآن الكريم قرنه بعبادة الأصنام، وجعله رجسا من عمل الشيطان؛ إذ إنه لا يأتي إلا بصنوف الشر وألوانه، فهو يمحق المال ويبدده، ويفتح أبواب الدين، وينزع من القلب التوكل على الله، ويصد الإنسان عن الأخذ بالأسباب، يهدم البيوت العامرة، ويفقد العبد ماله في وجوه الحرام، ويورث الافتقار، ويفتح أبواب العداوة والبغضاء بين الناس وإن أظهروا بألسنتهم الرضا فإنهم دائما بين غالب ومغلوب، والمغلوب وإن سكت فإنه يسكت عن حقد وعداوة شديدة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (المائدة: 90- 91).

إن القمار اليوم في عالم الفضاء الإلكتروني لم يقف عند صورته المعروفة بين الناس، بل مال فأخذ صورا جديدة؛ حيث تسللت إلى عادات بعض الناس قضية المراهنات الإلكترونية والقمار الإلكتروني، فقد تكون مباريات افتراضية، وقد تكون ألعابا إلكترونية تقوم على المخاطرة والمراهنة، وهو القمار بعينه، في خطورته وأثره وعواقبه الوخيمة.

إن القمار ذنب عظيم، وإثم كبير، فلما ذمه القرآن الكريم قرنه بعبادة الأوثان،  ولما أمرنا باجتنابه؛ جعل في الاجتناب باب الفلاح فقال: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وإذا كان الاجتناب فلاحا فماذا يكون الفعل إلا خسارا.

ولما ذمه النبي (صَلى الله عليه وسلم) بالغ في الزجر عنه، وعن ذكره، حتى إذا ذكره الإنسان طالبا له؛ حثه على الصدقة، فقد روى (البخاري ومسلم) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلى الله عليه وسلم): "مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ".

إن في القمار أضرار مادية ونفسية واجتماعية وخُلُقية: ولا يخفى على أحد  أن المقامر إذا اكتسب مالا فهو من باب أكل الحرام، والنبي (صلى اللهُ عليه وسلم) يقول: "أيُّما لحمٍ نَبَتَ من حرامٍ فالنارُ أولى به ". كما إن خسر المقامر ماله فهذا ضرر واضح يعيش المقامر ناره، ويمتد أثره إلى الزوجة والأولاد، والنبي (صلى اللهُ عليه وسلم) يقول: "كفى بالمرءِ إثمًا أن يُضَيِّعَ من يقوتُ".

إن القمار يُفقد الإنسان العلم والعمل، والإحساس والشعور، ويجعله يعتمد على الأماني المغلوطة، والأحلام الكاذبة، فيركن إلى الكسل والخمول، ويترك التوكل على الله (تعالى) والأخذ بالأسباب. القمار معول هدم للبيوت والأسر. القمار باب فقر وإذلال للنفوس. القمار: يصد عن ذكر الله وعن الصلاة. القمار: يدفع بأهله إلى أسوء الأخلاق، وأقبح العادات. القمار يدفع صاحبه إلى ألوان الإجرام. القمار يورث القلق، ويسبب المرض، ويحطم الأعصاب. القمار يولد الحقد والعداوة والبغضاء.

 فما أعظم أن يجعل العبد نصب عينيه في أمر القمار قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

نسأل الله دوام نعمه وفضله
 وأن يحفظ مصر من كل مكروه وسوء

محمد حســـــــن داود
إمام وخطــيب ومدرس
دكتوراة في الفقه المقارن

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 



google-playkhamsatmostaqltradent