(من دروس شهر رمضان)
رمضان شهر الدعاء المستجاب
للدكتور / محمد حسن داود
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن شهر رمضان موسم عظيم
للطاعات والعبادات، ومن أجل ما يتعبد به المسلم في هذه الأيام المباركة: "
الدعاء"؛ إذ إن مظان الإجابة تكثر في هذا الشهر المبارك؛ لقرب الإنسان من ربه
بالصيام، والقيام، والصدقة، وقراءة القرآن، وغير ذلك من صالح الأعمال، قال تعالى:
( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ ) (البقرة: 186) فهذه الآية
الكريمة جاءت بين آيات الصيام، إشارة إلى ما لرمضان من خصوصية بالدعاء، وما للصيام
من ارتباط بالإجابة والقبول، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " ثلاثُ
دَعواتٍ لا تُرَدُّ : دعوةُ الوالِدِ لِولدِهِ ، ودعوةُ الصائِمِ ، ودعوةُ
المسافِرِ " (رواه البيهقي).
فالدعاء شأنه عظيم، ونفعه
عميم، ومكانته سامية، ومنزلته عالية؛ فما من شيء أكرم على الله (تعالى) منه، فعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، (رضي الله عنه)، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: " لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ
الدُّعَاءِ ".
والدعاء باب للرحمات ،وتفريج
الكربات ،و الرفعة في الدرجات ،ومغفرة السيئات، يزيل الله به الهم، ويكشف به الغم،
فما استجلبت النعم بمثله، ولا استدفعت النقم بمثله، فهو ينفع مما نزل ومما لم
ينزل؛ فلقد كان الدعاء سببا في نجاة سيدنا
يونس (عليه السلام)، قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ
أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا
أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الانبياء: 87 -
88).
وكان سببا في شفاء سيدنا أيوب
(عليه السلام) بعد ابتلاء لبث فيه أعواما، قال تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا
أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ *
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ*وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ* وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص: 41-44).
وكان سببا في أن أعطى الله
(عز وجل) لسيدنا سليمان (عليه السلام) ملكا ما أعطاه لأحد من بعده، قال تعالى:
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ
أَنَابَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ
مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ* فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي
بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ* وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ*
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ*هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ
أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (ص34-39).
وإن لإجابة الدعاء أسباب
وآداب؛ فعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)، قَالَ: "إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ
عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا" (رواه
ابن حبان )، ويقول عمر بن الخطاب، (رضي الله عنه): "إني لا أحمل همّ الإجابة،
ولكن همّ الدعاء، فإذا أُلهمتُ الدعاء، فإن الإجابة معه " ومن ذلك:
- الإخلاص: قال تعالى (هُوَ
الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (غافر 65).
- تمجيد الله سبحانه والثناء
عليه، وكذلك الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ لحديث فَضَالَةَ بْنِ
عُبَيْدٍ ، قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
قَاعِدًا إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي
وَارْحَمْنِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :
"عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي ، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ
اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، وَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ ادْعُهُ"، قَالَ :
ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى
النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فَقَالَ النَّبِيُّ (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): " أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ" (
رواه الترمذي ).
- تقديم العمل الصالح ،فعن أم
المؤمنين عائشة (رضي الله عنها )أنها سُئلت : بِمَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَسْتَفْتِحُ قِيَامَ اللَّيْلِ ؟ فقالت :
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُكَبِّرُ
عَشْرًا ، وَيَحْمَدُ عَشْرًا ، وَيُسَبِّحُ عَشْرًا ، وَيُهَلِّلُ عَشْرًا ،
وَيَسْتَغْفِرُ عَشْرًا ، وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي
وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عَشْرًا) (رواه أبو داود).
- الدعاء بقلب حاضر، فقد قال
النبي (صلى الله عليه وسلم) "فَإِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) لا يَسْتَجِيبُ
لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ " (رواه احمد) قال يحيى بن
معاذ: "من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرده".
- حسن الظن بالله، ففي الحديث
القدسي: " أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي " (رواه البخاري)، وعَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)، قَالَ: "الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ،
فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ
بِالإِجَابَةِ ،..." (رواه أحمد ).
- عزم المسألة لقول النبي (صلى الله عليه وسلم):
" لا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ،
اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ، لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ ، فَإِنَّ اللهَ لا
مُكْرِهَ لَهُ "(رواه البخاري).
- فسألوا الله من فضله، ولا
تستبطئوا الإجابة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) قَالَ " يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ
فَيَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" (رواه البخاري ومسلم).
- سلوا الله حاجتكم كلها،
قليلها وكثيرها، دقيقها وجليلها، قريبها وبعيدها، واعلموا أن الدعاء نافع بكل حال،
فثمرته مرجوة حتى وإن لم تتحقق في وقتها أو زمانها ،فلقد قال النبي (صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ
لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا
إِحْدَى ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ
يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ
مِثْلَهَا " ، قَالُوا : إِذًا نُكْثِرُ ؟ ، قَالَ :" اللَّهُ أَكْثَرُ
"(رواه الترمذي)
- تعرفوا إلى الله بالطاعات،
والعبادات، والقربات، وصالح الأعمال، في الرخاء، يعرفكم في الشدة؛ اسألوا الله وقت
الغنى يجيبكم إن تدعوه وقت الفقر، اسألوه وقت الصحة، يجيبكم إن تدعوه وقت المرض؛
اسألوه وقت القوة، يجيبكم إن تدعوه وقت الضعف؛ اسألوه في شبابكم، يجيبكم إن تدعوه
في هرمكم؛ اسألوه وقت الرخاء، يجيبكم إن تدعوه وقت الشدة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ): " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ
الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ " (رواه
الترمذي وقال حديث غريب )
فحري بنا أن نكثر من الدعاء
ولا نهجره، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ،
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يَقُولُ: " الدُّعَاءُ هُوَ
الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)
(غافر60)، (رواه أحمد).
=== كتبه ===
محمد حســـــن داود
إمام وخطيب ومــــــــدرس
دكتوراة في الفقه المقارن
لتحميــل الدرس word رابط مباشر ----- اضغط هنا
لتحميــل الدرس word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا