recent
آخر المشاركات

خطبة بعنـوان: معنى التاجر الصدوق ومنزلته ولماذا هو مع النبيين والصديقين - للشيخ / محمد حســـــــن داود (10 شوال 1445هـ - 19 أبريل 2024م)

خطبة بعنـوان:
معنى التاجر الصدوق ومنزلته
ولماذا هو مع النبيين والصديقين
للشيخ / محمد حســـــــن داود
(10 شوال 1445هـ -  19 أبريل 2024م)



العناصــــــر:      مقدمة :
- معنى التجارة الصادقة ومكانتها.
- مظاهر الصدق والأمانة في التجارة.
- أثر الصدق والأمانة في التجارة وعواقب الكذب والغش.
- لماذا التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين.
- دعوة إلى أكل الحلال ونبذ الحرام.

الموضوع: الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء 29)،  وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ" (رواه الترمذي)، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد

فلقد حثنا الإسلام على الكسب الطيب، ونهانا عن الكسب الحرام بكل صوره وألوانه، قال تعالى: (فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (النحل 114)، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء: 29-30) ويقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): "نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحِ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ".

ولا شك أن من أبواب الكسب الطيب: التجارة الصادقة، فلقد قرن الله (عز وجل) ذكر الضاربين في الأرض للتجارة بالمجاهدين في سبيله، فقال سبحانه (وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (المزمل 20) ولما سُئل النبي (صَلى الله عليه وسلم): يا رسولَ اللهِ أيُّ الكسبِ أطيَب، قال: "عملُ الرَّجلِ بيدِه وكلُّ بيعٍ مبرورٍ"، وجاء عن عمر (رضي الله عنه) أنه قال: ما من مكان أحب إلى أن يأتيني فيه أجلي بعد الجهاد في سبيل الله إلا أن أكون في تجارة أبيع وأشتري".

وإذا قلنا إن الصدق والأمانة صفتان عظيمتان في قدرهما، حيث قال الله (سبحانه وتعالى): (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب 72)،وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة 119)"، فهما أيضا واسعتان في دائرتهما، إذ تسعان المشارق والمغارب من أمور الدين والدنيا، ومن ذلك: صدق وأمانة التاجر.

فلقد عمل النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتجارة فكان صادقا أمينا، كعادته في شئون حياته كلها، إذ يصف السائب بن أبي السائب حال تجارة النبي (صَلى الله عليه وسلم) وشراكته فيها، فيقول له: "كنت شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك، كنت لا تداريني ولا تماريني ".

إن مظاهر الصدق والأمانة في التجارة كثيرة، يجب أن نقف عند حقيقتها، ونتدبر معانيها، ومنها:

- الصدق في البيع، ونبذ الغش والخداع: فلا يبيع التاجر معيبا إلا بينه؛ إذ يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا بَيَّنَهُ لَهُ". وما أعظمه من باب لجلب البركة؛ فلما سُئل عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه)،عن سر بركة ماله ويسر حاله اثر التجارة ، قال  ما رددتُ ربحاً قط، وما كتمتُ عيباً قط . وهذا مثال طيب لحال أهل الصدق والأمانة من التجار، يكشفون للمشتري عن عيوب سلعتهم حتى وإن ضر بنفاذ بيعهم، فقد كان لمحمد بن المنكدر، سلع تباع بخمسة، وسلع تباع بعشرة، فباع غلامه في غَيبته شيئا من سلع الخمسة بعشرة لأعرابي، فلما عرف ابن المنكدر ما فعل غلامه اغتمّ لصنيعه، وطفق يبحث عن المشتري طوال النهار، حتى وجده، فقال له ابن المنكدر: إنَّ الغلام قد غلط فباعك ما يساوي خمسة بعشرة، فقال الأعرابي: يا هذا قد رضيت. فقال ابن المنكدر: وإن رضيت فإنّا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا، فاختر إحدى ثلاث: إما أن تستعيد مالك وتعيد السلعة، وإما أن تُردَّ إليك خمسة، وإما أن تأخذ من سلعة الخمس سلعة العشر. فقال الأعرابي: أعطني خمسة، فرد عليه الخمسة وانصرف.

وفى أحاديث نبوية شريفة، يبين لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) أثرا ليس بهين لإخفاء عيوب السلع فيقول: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا "(رواه البخاري)، وكأن الجزاء من جنس العمل؛ فمن يدلس ابتغاء مكسب أكثر، كانت العاقبة أن محقت بركة البيع والكسب، ليس هذا وفقط، بل تدبر هذا الموقف، فلقد مَرّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي "(رواه مسلم) وأنظر معي هذا الدرس من أبى هريرة (رضي الله عنه)، إذ يبين فيه حال من يخلط رديء السلع بحيدها ثم يبيعها على أنها الأجود والأعلى، فقد مر أبو هريرة بناحية "الحرة" فإذا إنسان يحمل لبنا يبيعه، فنظر إليه أبو هريرة، فإذا هو قد خلطه بالماء، فقال له: كيف بك إذا قيل لك يوم القيامة خلص الماء من اللبن ؟ (رواه البيهقي).

- الوفاء بعهود عقود تجارته، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) (المائدة1) ففي الوفاء بالعهود والعقود ما يزيد الثقة بين الناس، وينشر المحبة بينهم، وفي  نقض العهود والعقود ما يذهب بالثقة بين الناس، ولقد قال صَلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً".

- وفاء الكيل والميزان، فلقد اهتم القرآن الكريم بهذا الجانب من المعاملة، وجعله من وصاياه، قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) (الأنعام:152)، وقال سبحانه: (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا) (الإسراء35)، أما التطفيف، فهو نوع من السرقة، وضرب من الخيانة، له عاقبة وخيمة، قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفينَ * الَّذينَ إِذا اكْتالوا عَلى النّاسِ يَسْتَوْفونَ * وَإِذا كالوهُمْ أو وَزَنوهُمْ يُخْسِرونَ * أَلا يَظُنُّ أولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعوثونَ * لِيَوْمٍ عَظيمٍ* يَوْمَ يَقومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمينَ ) (المطففين1-6).

- فيما يجب أن نعلم أن النبي (صلى الله عليه وسلمَ) نهى عن كثرة الحلف ولو صدقا لانفاق السلعة، فقال صلى اللهُ عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ". وعن أبي هريرة (رضِي الله عنه) قال: سمعت رسول الله (صلَّىَّ الله عليْه وسلَّم) يقول "الحلف مَنْفَقَةٌ للسلعة مَمْحَقَة للبركة" (رواه البخاري). فكيف به إذا كان كذبا؛ إذ يقول الرسول (صَلى الله عليه وسلم): "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ ". ففي انفاق السلع بالحلف الكاذب خسارة؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى : أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ ، فَحَلَفَ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطَ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)( آل عمران/77) (أسباب النزول للواحدي). وعنْ أَبِي أُمَامَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، قَالَ : " مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك"(رواه مسلم)

- كذلك من مظاهر الصدق والأمانة في التجارة: عدم احتكار السلع: فقد قال صلى الله عليه وسلم " مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ، وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ". وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: "مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ"( رواه بن ماجه ).

إن احتكار السلع سلوك ذميم يحمل في طياته الضرر، والنبي (صلى الله عليه وسلمَ) قال: "لا ضرر ولا ضرار"، كما أنه دليل على محبة الذات وتقديم النفس على  حساب الآخرين، ولقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلمَ)" لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (رواه البخاري) حب لا أثرة فيه ولا استغلال، ولا غش، ولا تدليس أو احتكار وهذا ما كان عليه الصحابة و السلف الصالح ؛ فعن بعض السلف أنه جهز سفينة حنطة إلى البصرة وكتب إلى وكيله: بع هذا الطعام في يوم تدخل البصرة فلا تؤخره إلى غد، فوافق السعر فيه سعة، فقال له التجار: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافاً فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذا قد كنا قنعنا أن نربح الثلث مع سلامة ديننا وإنك قد خالفت أمرنا وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي فخذ المال كله فتصدّق به على فقراء أهل البصرة وليتني أنجو من الاحتكار كفافاً لا عليّ ولا لي. (إحياء علوم الدين للغزالي).

وإن العاقل ليعجب كيف أن الاسلام حرم الغش والتدليس والإحتكار، وحث على التكافل والتراحم في كل الأوقات؛ ثم تسمع عن محتكر أو غاش  في الأوقات التي يتأكد عليه فيها إجابة السائل، وقضاء الحوائج، وتفريج الكرب، ما دام قادرا على ذلك. فللتجارة في الإسلام بعدا لا يقف عند كونها مجرد سعي للكسب والربح، بل هي عامل من عوامل ترابط العلاقات الاجتماعية، ضرورة لاستمرار الحياة الإنسانية، وهناك من الصحابة والسلف الصالح من اتخذها سببا لكشف الكرب ومعاونة المحتاج، كعثمان بن عفان (رضي الله عنه)، فكيف يصل الأمر إلى الاحتكار، والنبي (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول: "لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ" (رواه مسلم) ولا تستهين بهذا اللفظ، فالله (عز وجل) قد وصف به أصحاب النار (أعاذنا الله جميعا من النار).

ان للصدق والأمانة في التجارة أثر طيب فعن أبى سعيد (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ" (رواه الترمذي) وعن رِفَاعَةَ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إِلَى المُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ"، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: "إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ اتَّقَى اللَّهَ، وَبَرَّ، وَصَدَقَ" (رواه الترمذي) ولقد سُئل بعض الصالحين عن التاجر الصدوق، أهو أحب إليك أو المتفرغ للعبادة؟ قال التاجر الصدوق أحب إليّ، لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان ومن قبل الأخذ والعطاء فيجاهده".

والذي يظهر (والله أعلم) أن النبي (صلى الله عليه وسلمَ) بشر التاجر الصدوق بهذه المنزلة الطيبة والمكانة الرفيعة لعدة أسباب:

أولا: أنه أطاع الله (عز وجل) واهتدى بهدي النبي (صلى الله عليه وسلمَ)، وقد قال تعالى في ذلك: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: 69).

ثانيا: أن الأسواق يكثر فيها أمر الغش، والخداع، والحلف الكاذب، والأحاديث في الإشارة إلى ذلك كثيرة؛ فلما ارتقى التاجر الصدوق عن ذلك كله بصدقه وأمانته كان أهلا للقرب من النبي (صلى الله عليه وسلمَ) مجلسا بحسن أخلاقه؛ وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ): "إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا" (رواه الترمذي). وفي الصدق خاصة يقول النبي (صلى الله عليه وسلمَ) : "ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا" (رواه مسلم)، وفي الآية الكريمة: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء:69).

ثالثا: أن الصدق، والأمانة، والوفاء بالعهود، وعدم الغش أو الاحتكار، وغير ذلك مما يتطلبه الصدق في التجارة... كل ذلك من صفات الأنبياء والصديقين، فلما تخلق التاجر الصدوق بأخلاقهم كان معهم.

رابعا: إضافة إلى ذلك أن التاجر الصدوق داع إلى طيب الأخلاق وفضائل الخصال بمعاملاته.

ولقد دعا النبي (صلى الله عليه وسلم) بالرحمة لمن جعل السماحة خلقا أصيلا من أخلاقه، يعقد بها في البيع والشراء صفقاته، ويجعلها نصب عينيه إذا وفى أو استوفى مستحقاته، فعن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى(رواه البخاري)، وعن محمد بن المنكدر أنه كان يقول أحبَّ اللهُ عبدًا سَمْحًا إن باع، سَمْحًا إن ابتاع، سمحًا إن قضى، سمحا إن اقتضى (موطأ الإمام مالك).

إن الإسلام لا يرضى للأسواق أن يتهارش الناس فيها تهارش السباع، ولا أن يتغالب الناس فيها بالمكر والخديعة، كما أن الإسلام في تشريعاته لا يستكثر على التجار أن تكون لهم تجاراتهم الرابحة؛ ولكنه جعل لها طرقَها المشروعةَ التي لا يهضم بها حق، ولا يؤكل فيها مال بالباطل، فطرق الكسب المشروع ليست بضيقة على مبتغيها حتى توسع بحيل الكذب والغش والخديعة، فالإسلام حرم ذلك بكل صوره، وشتان بين الصادق والكذوب، والأمين والغاش المخادع في التجارة، إذ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَطْيَبَ الْكَسْبِ كَسْبُ التُّجَّارِ الَّذِينَ إِذَا حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا، وَإِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا، وَإِذَا وَعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا، وَإِذَا اشْتَرُوا لَمْ يَذِمُّوا، وَإِذَا بَاعُوا لَمْ يُطْرُوا، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَمْطُلُوا، وَإِذَا كَانَ لَهُمْ لَمْ يُعَسِّرُوا". فلا يحملن أحدكم حب المال أن يطلبه من غير حله، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) "مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ "

المـالُ ينفدُ حِلّـهُ وحرامــــــــــهُ *** يومـا ويبقى بعد ذاكَ آثامُــــــهُ
ليـسَ التقـيُّ بمتّقٍ لإِلـهـــــــــــهِ *** حتى يطيـبَ شرابُهُ وطعامُــهُ
ويطيب ما يجني ويكسبُ أهلــهُ *** ويَطيب من لفظِ الحديثِ كلامُهُ

اللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه، واحفظ اللهم مصر من كل مكروه وسوء

=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
باحث دكتوراه في الفقه المقارن

 لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر      -----      اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة  word   رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا 

لتحميــل الخطبة     pdf   رابط مباشر     -----      اضغط هنا 



google-playkhamsatmostaqltradent