خطبة بعنوان :
فهم مقاصـــــــــــد السنة النبوية
ضرورة لمواجهة الجمود الفكري
للشيخ / محمد حســــــن داود
فهم مقاصـــــــــــد السنة النبوية
ضرورة لمواجهة الجمود الفكري
للشيخ / محمد حســــــن داود
العناصــــــر:
1- السنة النبوية ومكانتها .
2 - الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم .
3 - حاجة الناس إلى السنة النبوية .
4 - ضرورة فهم مقاصـد السنة النبوية لمواجهة الجمود الفكري .
5 - أمثلة للفهم المقاصدي للسنة النبوية .
الموضـــــوع:
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)الأنفال
24) والقائل أيضا ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه
الشريف " مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى
اللَّهَ "رواه البخاري) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين، وبعد
قال تعالى ( هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ
لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )الجمعة2) (والحكمة هي السنة؛ قاله الحسن البصري والشافعي وغيرهما)
فلقد أجمعت الأمة على أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع، بعد القران الكريم،
قال تعالى( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا
مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ )آل عمران164) وقال
جل وعلا (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء 113) وقال سبحانه
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) النحل 44) ومن ذلك جاءت النصوص
تؤكد على حجية السنة ومكانتها، وتأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحذر من مخالفته،
قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله )النساء64 ) وقال سبحانه ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ
مِنْكُمْ)النساء 59 ) وقال جل وعلا (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا
قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)الأحزاب
36) وقال سبحانه ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) الحشر ) وما زال القران يؤكد
على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد قرن الاستجابة للرسول صلى الله عليه وسلم
بالاستجابة لله تعالى فقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)الأنفال 24) بل جعل طاعة النبي صلى
الله عليه وسلم من طاعته، فقال تعالى( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)النساء
80) فطاعته صلى الله عليه وسلم، من لوازم الإيمان بالله ومحبته، قال تعالى (قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) آل عمران 31) وطريق
الهداية، قال تعالى ( وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) النور54 ) وباب نزول الرحمات، قال تعالى (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )النور56) وسبيل الفلاح، قال تعالى (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ
فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) النساء 69) وقال سبحانه
(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )النساء13)ويقول جل وعلا (وَمَن
يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)
النور52 ) وفى مقابل ذلك يقول الله جل وعلا (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور63) ويقول
سبحانه (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا
)النساء65) ومن ينظر في نصوص السنة النبوية، يجد الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم،
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، قَالَ : " كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى ، قَالُوا
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَنْ يَأْبَى ؟ ، قَالَ : مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ
، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى " رواه
البخاري) وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: " مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى
اللَّهَ "رواه البخاري) ويقول أيضا " فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ
مِنِّي "و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، قَالَ " دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ
شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ
" رواه البخاري) وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ
الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
كِتَابُ اللَّهِ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا
فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ " رواه الترمذي) وعن جابر ابن عبد الله قال " جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ
: إِنَّهُ نَائِمٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ
، فَقَالُوا : إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا ، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ : إِنَّهُ نَائِمٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ
يَقْظَانُ ، فَقَالُوا : مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً
وَبَعَثَ دَاعِيًا ، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ
، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ
، فَقَالُوا : أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهُ نَائِمٌ
، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ ، فَقَالُوا
: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ
، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ
... " رواه البخاري) .
ومن يمعن النظر
يعلم مكانة السنة النبوية ومدى الضرورة وشدة حاجة الناس إليها ؛ فكيف عرف تفصيل مجمل
القران، كيف عرفت صفة الصلاة ومواقيتها وأحكامها، كيف عرف أن الظهر أربع ركعات وكذلك
العصر والعشاء، وكيف عرف أن المغرب ثلاث ،و كيف عرفت أحكام الزكاة، وأعمال الحج من
وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلفة، ورمي الجِمار، وصفة الإحرام وما يجتنب
فيه وغير ذلك إلا بالسنة ؛ وتدبر معي ما جاء عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله
عنهم - قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ
مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ
فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ
لِي فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ
فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ " رواه
البخاري) و عن سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ : " جَاءَ
رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ : إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ
الْمَاءَ ؟ فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : أَمَا تَذْكُرُ
أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ ، وَأَمَّا
أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا
كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ
" رواه البخاري) (والأمثلة في ذلك كثيرة جدا)
ومع أن الإسلام دين الوسطية، دين السماحة
واليسر، إذ يقول الله جل وعلا ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ )البقرة 185) وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ" مَا خُيِّرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ
مِنْ الْآخَرِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا؛ فَإِنْ كَانَ
إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ" رواه البخاري ومسلم واللفظ له) وعَنْ
أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِنَّ
الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا
وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ
الدُّلْجَةِ " رواه البخاري ومسلم) إلا أن هناك من يقفون عند ظاهر النصوص، ولا
يأخذون في الاعتبار مقاصد السنة النبوية، فيشقون بذلك على أنفسهم، وعلى من يحملونه
على هذا الفهم المتحجر، مع أن الفهم الصحيح للدين يتطلب فهم مقاصد السنة النبوية، وفهم
مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت بما فيه مصلحة العباد؛ يقول العز بن عبد السلام
في "قواعد الأحكام"، "لو تتبّعنا مقاصد ما في الكتاب والسنّة لعلمنا
أنّ الله أمر بكلّ خير وزجر عن كلّ شر، فإنّ للخير يُعبَر به في جلب المصالح ودرء المفاسد،
والشر يُعبَّر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح" ومن ثم فان من أسباب الجمود الفكري،
الجهل بمقاصد السنة النبوية، بل وبمقاصد الشريعة الإسلامية، يقول الحسن البصري رحمه
الله " إن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على امة محمد صلى
الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا " فلقد اختلقت العقول
المتشددة والافهام المتطرفة التفسيرات الخاطئة، حتى القوا الناس بالكفر واستحلوا الدماء
والأموال ، ولعل الجهل بمقاصد الشريعة وأحكامها وإلقاء الناس بالكفر من أهم صفات الخوارج
يقول الإمام القرطبي مندداً بضلالتهم وقلة فهمهم وتكفيرهم الناس: " ويكفيك من
جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله بصحة إيمانه وبأنه من أهل
الجنة" ، فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله" يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ
صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ؛ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ؛ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ
لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ؛ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ
مِنْ الرَّمِيَّةِ " متفق عليه). و يقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضا " يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ
حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ
يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ
إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ
أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" رواه البخاري)
إن فهم مقاصد السنة النبوية أمر عظيم فطنه
الصحابة الكرام وعملوا به ، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , قَالَ
: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ :
" لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ " , فَأَدْرَكَ
بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ , فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا
, وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ , - اى أنهم قالوا
إنما يقصد الإسراع بالمسير، فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له من لم
يصل في الطريق ومن نظروا إلى المقصد فصلوا - قال ابن عمر" فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ "
ومن الأمثلة التي تؤكد لنا ضرورة فهم مقاصد
السنة النبوية : نهى النبي عن البول في الماء الراكد، فقد
يقف من يستمع إلى ألفاظ الحديث إلى نهى النبي عن البول في هذا الماء فقط، لكننا إذا
انظرنا إلى مقاصد السنة النبوية لعلمنا أن المقصود أيضا ، عدم إفساد الماء باى
صورة، هسواء كان ذلك بالبول فيه أو إلقاء القاذورات فيه أو غير ذلك مما يفسده على الناس
.
ومن الأمثلة على ذلك أيضا: إخراج زكاة الفطر بالقيمة؛
واليه ذهب بعض الصحابة والتابعين، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان وغيره؛ فمن ينظر
إلى مقصد السنة النبوية يقول بجواز إخراج القيمة في زكاة الفطر مراعاة لمصلحة الفقير،
وتحقيقا للغاية التي من اجلها فرضت زكاة الفطر، وهى أغناء الفقير والمسكين وذوي الحاجة؛ فالإغناء يحصل بدفع القيمة كما يحصل بدفع الطعام،
كما أن إخراج القيمة فيه قضاء الفقير لمتطلبات حياته، وفيه حماية الفقراء من استغلال
بعض التجار حاجة الفقير إلى المال؛ إذ يضطر الفقير لبيع زكاة الفطر من الطعام ولو بأرخص
الإثمان، نظرا لحاجته إلى المال، وفى هذا تفويت منفعة على الفقير، وانظر ما كان من
سيدنا معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، إذ طلب من أهل اليمن
أن يدفعوا قيمة مقدار زكاة زروعهم من الشعير والذرة ثيابًا ؛ مراعيًا في ذلك مقصد السنة
النبوية فى الاعتناء بمصلحة الأغنياء والفقراء معًا، ولو كان ذلك التصرف من معاذ خلاف
الصواب وقاله برأيه لرده النبي صلى الله عليه
وسلم ، إلى الصواب. إذ يقول الإمام البخاري:
قَالَ طَاوُسٌ قَالَ مُعَاذٌ، -رَضِيَ الله عَنْهُ-، لأَهْلِ الْيَمَنِ : ائْتُونِي
بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ، أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ
؛ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لأَصْحَابِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِالْمَدِينَةِ
".
ومن ذلك ما جاء في السواك، فعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ" لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ
بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ " والقصد من استعمال السواك طهارة الفم و حماية
الأسنان، وهذا المقصد كما يتحقق بالسواك يتحقق أيضا بالمعجون وفرشاة الأسنان، فقصر
النص على السواك ظنا أن به إصابة السنة وبغيره لا، فهذا عين الجمود والتحجر.
وعلى هذا فلا شك أن فهم مقاصد السنة النبوية هو فهم لصحيح الدين،
ومادامت الشريعة الإسلامية جاءت بما فيه مصلحة العباد فان فهم مقاصد السنة النبوية
هو باب عظيم لتحقيق ما فيه مصلحة العباد، كما انه ضرورة لمواجهة الجمود الفكري.
( الدعاء )
===== كتبه =====
محمد حســـــن داود
إمام وخطيب ومدرس