خطبة بعنـــــــوان :
مخاطر استباحة المال العام والحق العام
للشيخ / محمد حســـــن داود
20 ذو الحجة 1442هـ - 30 يوليو2021م
العناصــــــر: مقدمة :
- المال وأهميته ومكانته.
- حرمة المال العام .
- عواقب ومخاطر استباحة المال العام.
الموضوع: الحمد
لله رب العالمين، القائل في كتابه العزيز (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
) (آل عمران161) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا
محمدا عبده ورسوله، القائل في حديثه الشريف: "إنَّ رِجالاً
يَتَخَوَّضُونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حَقٍّ، فلَهُمُ النارُ يومَ القيامَةِ" (رواه
البخاري) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين، وبعد
فإن من أجل مقاصد الشريعة الإسلامية:
"حفظ المال" فهو أحد شقي زينة الحياة الدنيا، قال تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف 46) وهو قوام حياة الناس، وانتظام أمر معايشهم،
وتمام مصالحهم؛ ولله در القائل:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم *** لم
يبن ملك على جهل وإقلال
ومن ثم فقد جعل الإسلام المحافظة على
المال ضرورة كبرى، لما في ذلك من المصالح العظيمة، ولما في نقيضه من المفاسد الجسيمة،
فحرم الاعتداء عليه بأي صورة، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن
يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَٰلِكَ
عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) (النساء 29، 30)، وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي
(صلى الله عليه وسلم) قال: " يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ
إلَّا طيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ (يَا أيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ) وقالَ (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)
قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ
يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ
لذلِك" (رواه الترمذي) وما زال النبي (صلى الله عليه وسلم ) يؤكد على مكانة
المال وحرمته، حتى قرن حرمته بحرمة الدماء
والأعراض فقال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ،
دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" (رواه مسلم) وبين أن كل عبد مسئول أمام الله ( عز
وجل) عن مصدر كسبه وجمعه للمال، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا تَزُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدَمَا
عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ
فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ
أَخَذَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ " .
وإذا كان الإسلام قد جعل للمال الخاص
حرمة، فقد أكد على حرمة المال العام،
فللمال العام حماية بموجب الشرع مثل حماية المال الخاص بل أشد، وذلك لكثرة الحقوق
المتعلقة به، وتعدد الذمم المالكة له، ولقد أنزله عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) منزلة
مال اليتيم الذي تجب رعايته وتنميته وحرمة أخذه والتفريط فيه أو الاعتداء عليه، عندما
قال "إني أنزلتُ نفسي مِن مال الله منزلةَ اليتيم " والله تعالى يقول
فيه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ
فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ (النساء10).. و كان مُعَيْقِيب على
بيت مال عمر، فكنس بيت المال يومًا فوجد فيه درهمًا فدفعه إلى ابنٍ لعمر، قال مُعيقيب:
ثم انصرفت إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاءني يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده فقال
لي: ويحك يا مُعيقيب، أوجدت عليّ في نفسك شيئًا؟ قال قلت: ما ذاك يا أمير المؤمنين؟
قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد (صلى الله عليه و سلم) في هذا الدرهم؟
ومن ثم فان استباحة المال العام أمر خطير، وذنب عظيم،
وجرم كبير، و ضرب من الإفساد في الأرض، ولقد قال تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ) (الأعراف 85) وعن عدى بن عميرة (رضى الله عنه) قال: سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ
فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا (إبرة) فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا (خيانة وسرقة) يَأْتِي
بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".( رواه مسلم)، وعن عَائِشَةَ (رضي الله عنها) عن رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: " مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ
طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ " (متفق عليه)
لقد تربى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) على الحفاظ على المال العام ومراعاة حرمته، فانظر حال الصديق (رضي الله عنه)
كما جاء عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (رضي الله عنهما) قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبُو
بَكْرٍ قَالَ: يَا عَائِشَةُ انْظُرِي اللِّقْحَةَ الَّتِي كُنَّا نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا،
وَالْجَفْنَةَ الَّتِي كُنَّا نَصْطَبِحُ فِيهَا ، وَالْقَطِيفَةَ الَّتِي كُنَّا نَلْبَسُهَا،
فَإِنَّا كُنَّا نَنْتَفِعُ بِذَلِكَ حِينَ كُنَّا نَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا
مِتُّ فَارْدُدِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو بَكْرٍ أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى
عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكَ)
(مجمع الزوائد).
إن الناظر في القرآن الكريم والسنة
النبوية المطهرة، يجد عواقب الاعتداء على المال العام بأي صورة كان هذا الاعتداء،
فقد قال تعالى (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ
كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (أل عمران161) ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إنَّ رِجالاً
يَتَخَوَّضُونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حَقٍّ، فلَهُمُ النارُ يومَ القيامَةِ" (
رواه البخاري) (قال ابن حجر في الفتْح: أي يَتَصرَّفون في مال المسلمين بالباطل)، وعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ إِلا الأَمْوَالَ ، وَالْمَتَاعَ ، وَالثِّيَابَ
، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ ، يُقَالُ لَهُ : رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ
لِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) غُلامًا أَسْوَدَ ، يُقَالُ
لَهُ : مِدْعَمٌ ، فَتَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
إِلَى وَادِي الْقُرَى ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِوَادِي الْقُرَى بَيْنَمَا مِدْعَمٌ
يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، إِذْ جَاءَهُ
سَهْمٌ ، فَأَصَابَهُ ، فَقَتَلَهُ ، فَقَالَ النَّاسُ : هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : " كَلا ، وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَ يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ
، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا " ، فَلَمَّا سَمِعَ
النَّاسُ ذَلِكَ ، جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) : " شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ " .( رواه النسائي )
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: " قام فينا النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم)
فذكَرَ الغُلول، فعظَّمه وعظَّمَ أمرَه، قال: ” لا ألفِيَنَّ أحدَكم يومَ القيامة على
رَقبته شاة لها ثُغاء، على رَقبته فرس له حَمْحَمة، يقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول:
لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبْلَغْتُك، وعلى رَقَبته بعيرٌ له رُغاء، يقول: يا رسول الله،
أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، وعلى رَقَبته صامتٌ، فيقول: يا رسول
الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك، أو على رَقَبته رِقَاعٌ تَخْفِق،
فيقول: يا رسول الله، أغِثْني، فأقول: لا أملِك لك شيئًا؛ قد أبلغتُك".
إن للمال بريق حذر النبي (صلى الله
عليه وسلم) أن ينخدع الأنسان به فيكتسبه من حرام, فقال" تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ،
وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ
سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ" ويقول ايضا "
لَيَأْتِيَنَّ على النّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ
أمْ مِن حَرامٍ"
وإن الإسلام ينادينا في كل زمان ومكان أن
نحفظ للمال العام حرمته وان لا نعتدي عليه بأي صورة من الصور، فلا شك أن لاستباحته
ضرر كبير على المجتمع كله كما أنها تعمي البصيرة، وتضعف البدن، وتوهن الدين ،وتظلم
القلب، وتقيد الجوارح عن الطاعة؛ وتدبر في عواقب استباحته قول النبي (صلى الله
عليه وسلم) "إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ، مَن أصابَهُ بحقِّهِ بورِكَ لَه
فيهِ، ورُبَّ مُتَخوِّضٍ فيما شاءَت بهِ نفسُهُ مِن مالِ اللَّهِ ورسولِهِ، ليسَ لَه
يومَ القيامةِ إلَّا النَّارُ " (رواه الترمذي) ومن ثم فليدرك كل إنسان مدى حرمة
هذا المال، وحتما أن يفرق في التصرف فيه بينه وبين ماله الخاص فلا يستويان، وقد
قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا
كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ" (رواه الترمذي)
لا ترغبـنْ في كثيرِ المـالِ تكنـزهُ
*** من الحرامِ فلا ينمى وإِن كَثــُرا
واطلبْ
حـلالاً وإِن قلَّتْ فواضلهُ *** إِن الحلالَ زكيٌ حيثما ذُكِـــــــرا
اللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه، وباعد
بيننا وبين الحرام
واحفظ مصر وجيشها من كل مكروه وسوء
=== كتبه ===
محمد حســــــــــن داود
إمام وخطيب ومـــــــــــدرس
ماجستير في الدراسات الإسلامية
لتحميــل الخطبة word رابط مباشر (نسخة أخرى) اضغط هنا